الأحد، 19 أكتوبر 2025

الأمن...فوق الجبل


منتزه النحلي من أماكني المفضلة. أشعر أني محظوظ لأني أسكن على مقربة منه. هو فسحة يندر أمثالها في العاصمة وضواحيها لاستنشاق جرعة من الهواء النقي وقضاء وقت هادئ.

في ذلك اليوم، كُنت قد بدأت أشفى من نزلة برد حرمتني من ممارسة الركض هناك لعدّة أيام. قرّرت أن أقضي عدّة ساعات هناك كنوع من الاستشفاء الجسدي والنفسي.

بعد أن أتممت لفّتين أو ثلاثا من الركض في المسلك الصحي، اخترتُ مكانا للجلوس تحت أشجار الصنوبر بعيدا عن المسلك الرئيسي، فعلى رغم هدوء المكان عموما، فلا يخلو الأمر أحيانا من بعض المشاة ذوي الأصوات العالية، ولم تكن لي رغبة بالمرة في مواجهة مثل هذا الإزعاج.

يمرّ الوقت هناك دون أن أشعر به. عادة ما أقضيه في التأمّل وتقليب الأفكار والكتابة والمطالعة. كنت بصدد ممارسة هذا الروتين لمّا طرقت مسامعي أصوات سنابك الخيل. لم أستغرب ذلك، فطالما رأيتُ أعوانا من وحدات التدخل يأتون بشاحنات كبيرة محمّلة بالخيل إلى المنتزه، وافترضتُ أنّ تدريبها يقتضي إطلاقها في أماكن فسيحة كالنحلي.

كانت الأصوات تقترب منّي دون أن أعيرها اهتماما. كنتُ منشغلا في الكتابة. بعد ثوان، كان رجل أمن يقف على صهوة جواده أمامي. ألقى التحية فرددتها عليه. سألني: أتركض هنا؟ أجبته دون أن أرفع عيني عما أكتبه: نعم، وها أنذا أستريح. قال: هات بطاقة التعريف!

نظرت إليه مذهولا. لم أكن أظنّ أنني سأحتاج في خلوة على الجبل إلى الاستظهار بهويتي، وفي الحقيقة أنني نادرا ما أحملها حين الركض، ولم أكن متأكدا من أنها معي في تلك اللحظة. همست في تردّد وكأني أتأكد: ماذا؟ أجابني بصوت معروف لدى عموم المواطنين: طقتتعريف!

تحسست الحقيبة الصغيرة التي أضع فيها قارورة الماء بتوجّس، ثم تنفست الصعداء. يبدو أن العناية الإلهية أوحت إليّ أنني سأتعرض لمثل هذا الموقف، فألقيت بحافظة أوراقي وسط الحقيبة قبل أن أخرج.

مددت إليه البطاقة دون أن أغادر مكاني، لكنه لم يتقدم خطوة واحدة. طبعا، واجبي كمواطن أن أجعل الأمور أيسر على السيد العون. نهضتُ متثاقلا ومددت إليه البطاقة. نظر إليها وقلّبها ثم قال: ألم ترتكب شيئا؟ أجبت: لا. قال محذّرا: يمكنني أن أتأكد من ذلك. أجبته: افعل إذا شئت.

ردّ إليّ البطاقة وقال فيما يشبه التفسير: إنه مجرد 'كونترول' فلا تقلق. لم أدر لم كان عليّ أن أقلق. تذكرت صديقا من أستراليا كان يقول ساخرا: "عمليات المراقبة هذه لا تجدها إلا في الدول المتخلفة، كتونس وفرنسا! ففي الدول التي تحترم مواطنيها ليس من حقّ الأمني أن يتعرّض لك بأيّ شكل إلا إذا كان هناك داع لذلك". أجبت العون على كلّ حال: أفهم ذلك. تركني ومضى.

عدت إلى مكاني تحت الشجرة، وقد تكدّر صفوي. كنت أنوي قضاء صباح هادئ في مكاني المفضل وسط الطبيعة، فوجدتُ نفسي عرضة للاستجواب الأمني. من حسن حظي أني كنت أحمل بطاقة تعريفي. يجب أن تكون معي دائما، حتى لو كنت أغوص في أعماق البحر! ماذا كان يحدث لو أنها لم تكن معي؟ ربما كنت ستتصدر صورتي نشرات الأخبار مع عنوان بارز "القبض على عنصر من العناصر التي تتدرّب في الجبل". تنهّدت وأنا أفكّر في حماقتي إذ أنشد شيئا من السلام في بطن الطبيعة. ظننت أني أتحرر هناك. لعلّ الحرية مجرّد استراحة قصيرة بين عمليتي تفتيش.

الأحد، 5 أكتوبر 2025

الطائر الهاوي...تجربتي الأولى مع الموت

حدث ذلك في عُطلة، أخالها عطلة الربيع، لمّا كنتُ في سنّ السادسة. كعادتي وعادة لداتي من أبناء العائلة، كُنت أقضي أغلب أوقات الفراغ، إن لم نقل كلّها، بدار جدّتي. كنّا نلهو طول الوقت متمتّعين باللمجات التي لا تنتهي التي تمدّنا بها ميما. كان يوما معتدلا مناسبا للعب في الفضاء الخارجي. كنّا نتقاذف الكرة في الفناء الاسمنتي المجاور للمطبخ. لا أدري كيف كان ذلك المكان الذي لا تتجاوز مساحته بضعة أمتار مربعة يسعنا.
قطع لهونا صوت خافت يشبه الزقزقة. لم نبحث طويلا. قرب الحائط الخارجي، كان هناك عصفور صغير واقع على الأرض. أظنه كان من نوع الدوري (البوزويش). لم نكن نعلم تحديدا من أين أتى، ولكن كان هناك عشّ مُقام على عمود الإنارة على الجهة المقابلة من النهج، وافترضنا أنه سقط من هناك، وإن لم نلحظ أثرا لعصافير أخرى من نفس النوع يومها.
تحلقنا حوله. كان بالكاد يتحرك، ويبدو أنه يتنفس بصعوبة. لم نعرف ماذا نفعل معه. كيف بالإمكان أن ترعى طائرا لا يقدر على الطيران؟ خمنّا أنه لا شكّ عطشان وجوعان. كان لنا شيء من الحبوب التي كنّا نطعم بها الصيصان التي نشتريها والتي لا تعيش إلا لساعات أو أيام على أقصى تقدير. جئناه بشيء منها فلم يتناول منه شيئا. ولكن لمّا جئناه بالماء، شرب منه شيئا قليلا، وهلّلنا كلنا لذلك.
قضينا ساعات برفقة ذلك الطائر. كنّا ننتبه لكلّ حركة يبديها ويخيّل إلينا أنها دليل على أنه يتعافى. حفظنا ملامحه حتى خلنا أنه بإمكاننا أن نميّزه عن أقرانه، بذلك الاحمرار الخفيف الذي يمتزج بالبنّي في أعلى رأسه وجناحيه، وبتلك البقعة السوداء الصغيرة أسفل منقاره، وبذلك الملمس الناعم لزغبه الأبيض الذي يغطي بطنه وبتلك الرنة الخافتة في صوته المتعب.  بل أننا بدأنا ننسج مخططات لمستقبله: هل نخصص له قفصا يكمل فيه تعافيه بعيدا عن القطط والكلاب التي تتربص به؟ أم يجدر أن نطلقه في الطبيعة فورا؟
من العجيب أنني لم أمنحه اسما. كنت مولعا بتسمية كل شيء، كأنني أقفو أثر جدّي آدم. لكنّ التسمية امتلاك، ولعلّي كنت أستبطن أنّه مما لا يمكنني امتلاكه.
بعيد الغداء، أردنا تفقّده، ولكنه لم يكن يتحرك. ما باله؟ ألم يكن يومئ برأسه ويشرب الماء قبل قليل؟ ألم تتحسن حاله حتى خلنا أنه سيعود إلى الطيران قريبا؟ في خضمّ تلك الحيرة، لا أدري تحديدا من نطق بتلك الجملة "لقد مات"...
وجدت نفسي أنفجر في نوبة طويلة من البكاء. ربما كان ذلك حزنا على ذلك الكائن الرقيق الذي أفقده حادث عارض حياته. ربما كان ذلك أسفا على صداقة مأمولة بدأت أنسج أحلامها. ربّما كان ذلك خوفا من هذه النهاية المفاجئة التي تعصف بالأرواح...
أخذ الجميع يواسونني ويحاولون تهدئتي، ويعدونني باقتناء طائر أجمل. لكني لم أكفّ عن البكاء. تفتقت قريحة ابن عمي عن فكرة سرعان ما رضيت عنها: سنقيم مراسم دفن لهذا العصفور. أعددنا ما يشبه التابوت من الأخشاب التي كانت بورشة جدي. حفرنا حفرة صغيرة قرب مدخل الدار ووضعنا جثة العصفور هناك، وغطيناها بتلك الأخشاب. لعلّ أحدنا نطق ببعض الكلمات التأبينية حينها. وهكذا ودّعت ذلك الكائن الذي عبر حياتي لساعات... 

الاثنين، 29 سبتمبر 2025

إغراء الوردة

أن ترى وردة
تتفتح ذات صباح
تحيط بها غيمة من ندى
تتثاءب والعطر ييمم شطرك
تُفتح فيك حواس جُددْ
أنت تسبح في عالم من أثير
يهيل الضباب على يومك المتكرر
تغمض عينك 
تهمس: أيّ مدد؟
لتحاذرْ وأنت تجدّد روحك
من ذلك الظلّ فيك
تراه يراود ذاك النزوع القديم
ينادي لتقطفها
لتصير بين يديك
مِلكا بلا شركاء 
ودون أحدْ
ربّما تنتشي لحظة
ثمّ تنسى...
وتصبح روحك قبرا لها
حينها تتبخّر لحظتك الساحرهْ
وتعود إلى ملل اليوم
تغدو أسير الأبدْ...

الاثنين، 22 سبتمبر 2025

متى نقطع مع اقتصاد الرخص؟


مرّت سبعون عاما تقريبا على الاستقلال، وأكثر من خمسين على قانون 1972، ولا يزال الاقتصاد التونسي يقوم على مبدأ واحد: الرخص.

يتجلّى هذا الرخص أولا في الأجور. الأجر الأدنى 528 دينارا، أي 150 أورو، عُشر ما هو معمول به في فرنسا. هناك يمكّن الأجر الأدنى من حياة كريمة، وهنا لا يكفي لتغطية أبسط الحاجات. كل زيادة تُمرّر بخوف: خوف من هروب المستثمر الأجنبي، والعياذ بالله!

يكمن الرخص أيضا في علاقتنا بالقوى المصنّعة. نحن لا نصنّع منتَجا كاملا، بل نكتفي بقطع وأسلاك. في الماضي كنّا نركّب سيارات وحافلات، أما اليوم فلا إرادة ولا سياسة لتجاوز موقع المُناولة (الذي، للمفارقة، ألغيناه داخليا).

وفي زيت الزيتون، الأمر أدهى وأمر. نحن من كبار المنتجين عالميا، لكننا لا نتمتّع به إلا بعد أن يُلبَّى طلب الخارج. والأسوأ أنه في الغالب يُصدَّر دون تعليب، لتشتريه شركات إسبانية وإيطالية وتضع أسماءها عليه. مسؤولون خرجوا لتبرير هذه السياسة، دون أن تخطر ببال أحدهم خطة لصناعة علامة تونسية تفرض نفسها.

أما السياحة، فهي الرخص يمشي على قدميه. بعض الأوروبيين يتبجّحون بأن قضاء عطلة في تونس أرخص عندهم من البقاء في بيوتهم. في المقابل، صار على المواطن التونسي أن ينفق راتب شهر كامل ليقضي نهاية أسبوع في نزل ببلده. هذا دون أن ننسى أنها قطاع هشّ لا يوفّر سوى شغلا هشّا، في مقابل بضع عملات صعبة.

هذا ليس قدرا. إنه خيار اتخذته الدولة في مرحلة مبكرة وكان من المفروض أن يكون وقتيا وأن يقع تجاوزه تدريجيا. المقابل الوحيد الممكن للرخص هو الكرامة. وما أحوجنا إلى سياسات عمومية تعيد إلينا كرامتنا.

الخميس، 18 سبتمبر 2025

ثمن السهولة


ما يأتي بسهولة يذهب بسهولة. يكفي أن ترى كيف ينفق الذين حازوا أموالا طائلة عن طريق الرهان ما كسبوه، ومثل ذلك من يرثون ثروات كبيرة. لكنّ الأمر يتجاوز الجانب المالي. أعتقد أنّ نفس الشيء ينطبق على العلاقات، لا سيّما العاطفية منها. إذا كان كلّ شيء يسيرا ميسّرا منذ البداية ولمدة طويلة، فمن المرجّح ألّا تدوم العلاقة طويلا. إذا لم تكتسب العلاقة جانبا يحتوي على نوع من التحدّي أو المغامرة، فمن المحتمل أن يملّها أحد الطرفين أو كلاهما بعد بعض الوقت. قد يكون التوافق في الطباع والميول مدهشا، ولكن ما فائدة أن يعيش المرء مع نسخة من نفسه؟ إذا لم يكن هناك صراع ما، حتى إن كان طفيفا، فستذوي جذوة الاهتمام. الأمر شبيه تماما باللعب: إذا كانت اللعبة سهلة للغاية، فلن تضحي مسلية بعد فترة. كما إذا كانت صعبة للغاية، فسينفد الصبر منها. الأمر كلّه يتعلّق بدرجة الصعوبة وطبائع التعامل معها.

الثلاثاء، 16 سبتمبر 2025

وليمة الظل

يتغذى الوحش على النقاء. هو وحش، تعتمل فيه الغرائز البدائية، لا يعرف غيرها ولا يطيع إلّاها. إلا أنّ له ما يكفي من الوعي ليفهم أنه يُنظر إليه بمرتبة أقلّ من الآدمية، فيهتاج ويثور.

ليس له إلا فراؤه، فلا سبيل له لأن يتّخذ هنداما أنيقا يرد به المحافل والملاهي. لا صوت له إلا العواء، فلا مطمع له من ذلاقة اللسان ما يفتح له الأبواب المغلقة.

يجد لنفسه سبيلا أخرى. يختار لنفسه فريسة. يسعى في اختيارها أن تكون غريرة، لا تعرف شيئا عن طبائع الهوام ولم يفسدها بعد تبدّل الأقنعة.

يستدرجها إلى مكان معزول، حيث يُجهز عليها. لا يكون همّه في تلك اللحظة أن يقتات، بل أن يصعد بقوائمه فوق براءتها. ينهش عظامها ويمزّق لحمها، ثم يعوي فوق ما تبقى منها. يشعر لبرهة أنّ دماء نقية تجري في جسده.

الخميس، 17 يوليو 2025

الأربعون...عندما هرمتُ دفعة واحدة


عندما بلغ المنفلوطي سنّ الأربعين، كتب مقالة يقول في افتتاحها: "الآن وصلتُ إلى قمة هرم الحياة، والآن بدأتُ أنحدر في جانبه الآخر، ولا أعلم هل أستطيع أن أهبط بهدوءٍ وسكونٍ حتى أصل إلى السفحِ بسلام، أو أعثر في طريقي عثرة تهوي بي إلى المصرعِ الأخير هويّاً."

منذ قرأت هذه المقالة، ولمّا أكن جاوزت العشرين، وأنا أفكّر فيما عساني أقول إن بلغتُ هذه السنّ. كانت هذه اللحظة تتراءى لي بعيدة للغاية، في وقت كان فيه البعد الرومنطيقي-التراجيدي غالبا عليّ، فزعا ربّما من شبح الشيخوخة وطموحا إلى شباب أبديّ كالذي ناله أبو القاسم الشابي مثلا. وربّما كنت أعزّي النفس بالتفكير أنّها سنّ النبوة. من يدري؟ لعلّي إن بلغتُها أكون قد اقتربتُ فعلا من تلمّس شيء من "الحكمة".

جاءت هذه اللحظة أخيرا. لم ينزل عليّ الوحي حينها، ولم أبق فتيا كالشابي. وإنّما كنتُ في منعرج جديد على طريق الحياة. لا شكّ أنّني مررتُ بمنعرجات عديدة قبله، لكنّ هذا هو أخطرها بلا مراء. وجدتُ نفسي في هذه السنّ أتحمّل مسؤولية قرارات اتّخذتها عن وعي واستعداد لدفع الثمن، كما وجدتُ نفسي أتحمّل مسؤولية كلّ القرارات التي تردّدت في اتخاذها وأحجمت عن خوضها. كلّ ما خفتُ منه وتجنّبته طيلة سنوات عاد ليلسعني في قدمي كالعقرب، لأرتدّ متوجّعا حائرا أتساءل إن كان عليّ أن أبدأ الطريق من جديد.

تسقط طواحين الهواء في الأربعين. هي لا تتحلّل شيئا فشيئا، بل تتبخّر كأن لم تكن، لتتركك في مواجهة الواقع وصفعاته. ربّما اتّقيت بمثالياتك الكثير من السموم، ولكن ما كان بوسعك أن تظلّ بمعزل عنها إلى الأبد. أبيت أن تكبر، ثمّ هرمتَ فجأة، في لحظة واحدة.

في الأربعين، تصير حصينا تجاه الخيبات. قد تلقّيت منها جُرعات عديدة، فلم يعد لديها أيّ أثر عليك. آمنت، في لحظة ظننتها استثنائيةـ سُمّيت لاحقا بالانفجار غير المسبوق- أنّ كلّ شيء سيتغير وأنّ التاريخ نفسه سيتّخذ مسارا آخر نحو الحرية والكرامة والعدالة لكيلا تظلّ حكرا على أمم دون أخرى. ثمّ أفقت وأنت تقرّع نفسك أن لم تكن قفزت من المركب قبل أن تغرق.

في الأربعين، لا شيء مهمّ سوى المتع الصغيرة. أضحت السرديات الكبرى تثير لديك ضحكة ساخرة. أصبحتَ تبحث فقط عن قطع صغيرة من السلام: جلسة طويلة تحت شجرة صنوبر، غطسة في بحر معزول، ضحكة مجلجلة من طفلك، حضن دافئ، قطعة من موسيقى اكتشفتَها للتو، ثمالة قهوة نسيت وجودها في الفنجان…

لم يعش المنفلوطي حتى يحدّثنا عن الخمسين وما بعدها. من يدري ما كان عساه يقول؟ لعلّه كان يجد في الانحدار من أعلى هرم الحياة مباهج لم تخطر له ببال. أو ربمّا أنا فقط أعلّل النفس بالآمال أرقبها… 

السبت، 17 مايو 2025

صديقي الخنزير الوحشي


 
في المرّة الأولى التي واجهت فيها خنزيرا وحشيّا، ظننتُ أنّي على وشك الموت.

كان ذلك منذ ثماني أو تسع سنوات. كُنتُ أسير في منتزه النحلي، في طريق العين القديمة تحديدا. بدا لي أن أطيل نزهتي، من باب الرياضة، فسلكت سبيلا غير مطروق ومشيتُ فيه لساعة أو نحوها حتّى حسبت أنني على وشك أن أضلّ. كُنتُ على بعد كيلومترات من المدخل الرئيسي، لمّا رأيته.

كان ينزل من أعلى الجبل ماشيا الهوينى. وصل إلى المسلك الذي كنتُ أتبعه وتوقّف للحظة ونظر إليّ. جمد الدم في عروقي، ولعلّ المشهد الذي استحضرته ذاكرتي في تلك اللحظة هو مقتل الطفل في شريط "ريح الفرنان" على يدي حيوان مماثل. هيّء إليّ حينها أنّ الواقف أمامي بحجم الثور. لم أعرف ما عليّ أن أفعل، فلا أحد على مقربة منّي بإمكانه أن ينجدني، ومن الأكيد أنّه لم يكن من الممكن أن أركض أسرع منه. المعلومة الوحيدة الّتي خطر لي أن أستعملها -وهي على الأرجح مأخوذة من وثائقيّ عن الدببة ولا علاقة لها بالخنازير- أن أظلّ واقفا مكاني دون حراك حتى لا أستفزّه. وكان ذلك ما فعلته.

لم يدم الموقف سوى بضع ثوان. لم يعرني ذلك المخلوق الضخم أيّ اهتمام، وأكمل طريقه نزولا. تنفّست الصعداء وحثثت الخطى نحو أقرب مكان عامر لأشعر بالأمان، ولم أذهب نحو تلك المسالك القصيّة منذ ذلك الحين. كُتب لي عمر جديد إذ نجوت من ذلك الحيوان الضاري. أوَ لم يقتل أدونيس الأسطورة على يدي خنزير وحشي؟ أوَ لم يتعرّض الملك روبرت باراثيون لنفس المصير؟ لا شكّ أنّني محظوظ جدّا لأنّي سلمت مما وقعت فيه هذه الشخصيات الخيالية.

لكنّ الخنزير الوحشي هو كذلك بومبا، رفيق النمس تيمون في مغامرات الصور المتحرّكة. وهو هناك مخلوق ظريف، رغم نتن رائحته، يعيش وفق مذهب الهاكونا ماتاتا (أي دون أيّ قلق). أخال خنازير النحلي من هذه الطينة. تعدّدت لقاءاتنا بعد هذه المصافحة الأولى، وأصبحت تغشى الأحياء القريبة من النحلي، كرياض الأندلس والنصر، فيمكن أن تشاهد سربا من الخنانيص تقطع الطريق باحثة عن الطعام في النفايات، ولا يبدو أنها آذت أحدا. يبدو أنّ نعت "وحشيّ" صار مجازا، إذ لم تعد هذه الحيوانات تخشى الناس، فهي لا تهرب حين رؤيتهم وإنما تواصل أكلها في هدوء. كما لم يعد الناس يخشونها. منذ أسابيع، شاهدت أبا وابنيه (الذين لم يكن أكبرهما يتجاوز ستّ سنوات) يقفون على مسافة مترين من الخنازير متأمّلين إيّاها بعجب، فيما الأب يصوّرها بهاتفه. قد أصبحت الخنازير الوحشية حيوانات أليفة الآن!

أقرأ أحيانا منشورات من المتساكنين يبثّون من خلالها تخوّفاتهم من تكاثر الخنازير، وعادة ما يعلّق عليها البعض أنّ هذه الحيوانات في بيئتها الطبيعية، وأنّ البشر هم من يزعجونها لا العكس. أبتسم لقراءة مثل هذه التعليقات، فلو كنّا حريصين فعلا على احترام الطبيعة وكائناتها، لَما بُنيت أحياء -بل مدن- بأسرها فوق غابات ومناطق جبلية، دون أيّ اعتبار للتنوّع البيولوجي ولحقّ الكائنات- من غير البشر- في الحياة. فات الأوان على هذا العيش المتناغم مع الطبيعة! أمّا إذا شئنا أن نعبّر عن تعاطفنا البالغ مع هذه الكائنات الوحشية المسكينة، فيُمكن مثلا أن نشيّد تمثالا ضخما لخنزير وحشي في مدخل النحلي (يسجّله مسؤول ما في قائمة إنجازاته) أو ننشئ فريقا رياضيا نُطلق عليه اسم "الخنزير الرياضي بالنحلي". ربّما سيأتي يوم يصبح فيه الخنزير الوحشي رمزا من رموز البلاد، فنراه على ورقة المائة دينار (عندما تصدر) أو يتصدّر حملات السياحة البيئية. حينها، سأحكي لابني أنني من الأوائل الذين صادقوه قبل أن يصير نجما. وسأضيف بفخر: لقد نظر إليّ في العين مباشرة... ولم يهاجمني!


الأحد، 20 أبريل 2025

هذا ليس شعرا



إذا كنت تقرأ شعري
وفكّرت: ليس له أيّ معنى
فأنت محقّ
فكاتبه نفسه ليس يفهمه
وإذا ما رأيت الخيال نحيلا
كأنّ به علّة الموت
لا تتعجّب
فإنّ المداد رسول السواد
وإن جَرَحَتْ صورة ما شعورك
فاللطفَ أطلُبُ يا صاح
قد مرّ بي مثل ذاك
إذا ما كرهت نشاز القوافي
وقلت: عساه يعلّبها مثلما اعتاده الشعراء
فأنت تصيب فؤاد الحقيقة
لكنّها هكذا قَدِمَتْ
ليتها طَلَبت منك إذنا!
لعلك لست ترى ذاك شعرا
صدقت وأبررت
حتى أنا، كي أكون صريحا، أراه كذلك
لا لون فيه خلاف الرماد
ولكن تعال أخبّرك 
بعض المجانين يركب مكنسة
كي يطير تجاه الأعالي
فلا تأخذ الأمر جدّا
ودعني أحلّق فوق جوادي

الأحد، 13 أبريل 2025

الجدارة في مقابل التبادلية

 


في عالم مثالي، تكون الجدارة معيار التقييم الوحيد.  بمعنى أنه لينال الإنسان شيئا، ينبغي أن يكون مستحقّا له، سواء بالنظر إلى كفاءته الشخصية (كحقه في أن ينال عملا يناسب مؤهلاته) أو إلى حقوقه (كأن يتحصل على خدمة معيّنة لكونه مواطنا أو مستهلكا أو تلميذا أو غير ذلك من الصفات). ومن واجب القانون، كمنظومة مثالية نظريا، أن يكرّس مثل هذا التطابق.

لطالما آمنت بأن الجدارة هي الطريق الوحيد الذي يمكن سلوكه. ربما كان ذلك بفعل نزعة مثالية مزمنة جعلتني أميل إلى ما يجب أن يكون، لا ما هو كائن، أو ربما لأن تكويني القانوني رسّخ لديّ قناعة بأن الحقوق يجب أن تُمنح لا أن تُفتك، وأن الكفاءة يجب أن تُكافأ لا أن تُساوَم. كنت أرى الجدارة كمقياس طبيعي، إن اختلّ، اختلت معه قيم المجتمع ومعايير النجاح. كل ما عداها، في نظري آنذاك، لم يكن سوى تسميات مخففة للمحسوبية والفساد.

لكن مع الوقت، ومع خيبات شخصية صغيرة راكمتها التجربة، تجاوزت غرارة الصبا وبدأت أفهم. بدأت أرى كيف أن العالم، أو على الأقل مجتمعنا، لا يشتغل بمنطق الجدارة بقدر ما يتحرك بقوانين التبادلية.  الناس لا يتعاملون معك على أساس ما تستحقه، بل على أساس ما يمكنك أن تمنحهم إياه، أو ما تقدر على فعله من أجلهم. المحسوبية لم تعد تبدو لي انحرافًا عرضيًا عن المسار، بل صارت جزءًا من نظام كلّي له منطقه الخاص، منطق لا يعترف بالاستحقاق إلا إذا جاء مرفقًا بمنفعة متبادلة.

الأمثلة على ئلك أكثر من أن تعدّ. يكفي أن ترى كيف تُقضى الحوائج في الإدارات. إذا كنت مبعوثا من سي فلان، فستفتح أبواب كانت مغلقة. أمّا إذا لم يعرفك أحد، فحتّى الأبواب المفتوحة يمكن أن تُغلق. وأهل الإدارة بارعون في إيجاد الحجج التي تعفيهم من القيام بأيّ شيء. الوظيفة لا تعني خدمة الصالح العام، بل هي نفوذ ممنوح بسلطة تقديرية تمكّن صاحبها من إسداء خدمات معيّنة والحصول في مقابلها على خدمات مماثلة. أمّا إذا لم يكن لك ما تستند إليه سوى حقّك، فستكون أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام.

في الميدان الثقافي، وهو ميدان من المفروض أن يكون راقيا، الموهبة الصرف تضيع بسهولة إذا لم يكن لصاحبها ما "يفيد" به الفاعلين في المجال. جزء لا بأس به من الاستضافات في الملتقيات الأدبية يخضع لهذا المنطق: أستضيفك اليوم لتستضيفني غدا (غالبا على حساب المال العمومي في كلتا الحالتين) أو لتكتب عنّي أو لتقتني منّي نسخا من إصداري الجديد الذي كان ليتعفّن في قبو ما. أعرف عدد من الأصوات المميزة التي كانت تبشّر بمستقبل زاهر في الميدان الأدبي قبل أن يأكلها النسيان لأنّه لم يكن لها قيمة تبادلية في هذا المسار. هي موهوبة وكفى، فلتبق موهبتها دفينة ما دمت لن أستفيد منها شيئا! هذا ممّا يفسّر بشكل جزئي ركود الساحة الأدبية عندنا، فهي في الغالب لا تقوم على التميّز.

ويبلغ رهان التبادلية أقصاه في الميدان السياسي وبخاصة وقت الانتخابات. في وقت مضى، عندما كانت لنا بعض الحريات، كان هناك من يرفعون أصواتهم للتنديد بـ"المال السياسي الفاسد" في خضمّ الانتخابات. وفي الحقيقة، ليس المال إلا جزءا من المعادلة. من خلال قراءة كتاب جماعي صدر منذ بضعة شهور بإشراف المولدي الأحمر بعنوان "الانتخابات التشريعية في تونس بعد الثورة: نقد أسس المشروعية السياسية للنخب"، يمكن أن نفهم أنّ جزءا كبيرا من التحشيد الانتخابي لم يكن يستند لا على البرامج ولا على المواقف، وإنّما بالأساس على هذا المنطق التبادلي. بمعنى آخر، كفاءة المترشّح أو نزاهته أو فصاحته لا تهمّ بقدر ما يهمّ النفع الذي يمكن أن يقدّمه لي بشكل مباشر. إذا أمكنه توظيف ابني أو التوسّط لإخراج ابن أخي من مركز الإيقاف، فهو مرشّح جيّد وسأصوّت له. أمّا إذا لم يكن له من المزايا سوى برنامج يعد بالعدالة الاجتماعية وسيرة تزخر بالإنجازات الأكاديمية ومسيرة نضالية باهرة، فذلك لا يعني شيئا! وهكذا، خسر كثير من المتمرّسين في النضال السياسي المعارك الانتخابية لأنهم لم يفهموا كيف يفكّر الناخب.

ربّما حاولت الدولة الوطنية في بادئ الأمر تكريس معيار الجدارة، وما "المصعد الاجتماعي" الذي يكثر التحسّر عليه إلا عنوان لذلك، حيث كان يمكن للنجابة في الدراسة وحدها أن تكفل مستقبلا مشرقا لصاحبها. لكنّ حبال هذا المصعد تآكلت، حتّى لم يعد يمكنه أن يتجاوز القبو. أذكر مسؤولا رفيعا في العهد البائد كان مكروها من أهل بلدته، رغم كفاءته العالية التي أتاحت له شغل عديد المناصب. لم يكن ذنبه ليستحقّ هذه الكراهية إلّا لكونه "لم يخدم" أهل بلدته، بمعنى أنّه لم يمنحهم امتيازات فلم يربحوا منه شيئا! كلّ ذنب المسكين أنّه امتنع عن المحاباة!

المنطق السائد للنجاح اليوم يقترب من منطق العصابات. لنذكر دون كورليوني في فيلم "العرّاب" إذ جاءه من يطلب منه خدمة، فأجابه إليها بعد لأي، ولكن بشرط "في يوم ما، وقد لا يأتي هذا اليوم أبدا، قد أطالبك بردّ هذه الخدمة". هذه هي التبادلية في أوضح تجلياتها. ولعلّ مشكل الحالمين في هذا الوطن أنّ حلمهم منعهم من الانخراط في العصابات، فلم يبق لهم مكان غير الهامش.