السبت، 17 مايو 2025

صديقي الخنزير الوحشي


 
في المرّة الأولى التي واجهت فيها خنزيرا وحشيّا، ظننتُ أنّي على وشك الموت.

كان ذلك منذ ثماني أو تسع سنوات. كُنتُ أسير في منتزه النحلي، في طريق العين القديمة تحديدا. بدا لي أن أطيل نزهتي، من باب الرياضة، فسلكت سبيلا غير مطروق ومشيتُ فيه لساعة أو نحوها حتّى حسبت أنني على وشك أن أضلّ. كُنتُ على بعد كيلومترات من المدخل الرئيسي، لمّا رأيته.

كان ينزل من أعلى الجبل ماشيا الهوينى. وصل إلى المسلك الذي كنتُ أتبعه وتوقّف للحظة ونظر إليّ. جمد الدم في عروقي، ولعلّ المشهد الذي استحضرته ذاكرتي في تلك اللحظة هو مقتل الطفل في شريط "ريح الفرنان" على يدي حيوان مماثل. هيّء إليّ حينها أنّ الواقف أمامي بحجم الثور. لم أعرف ما عليّ أن أفعل، فلا أحد على مقربة منّي بإمكانه أن ينجدني، ومن الأكيد أنّه لم يكن من الممكن أن أركض أسرع منه. المعلومة الوحيدة الّتي خطر لي أن أستعملها -وهي على الأرجح مأخوذة من وثائقيّ عن الدببة ولا علاقة لها بالخنازير- أن أظلّ واقفا مكاني دون حراك حتى لا أستفزّه. وكان ذلك ما فعلته.

لم يدم الموقف سوى بضع ثوان. لم يعرني ذلك المخلوق الضخم أيّ اهتمام، وأكمل طريقه نزولا. تنفّست الصعداء وحثثت الخطى نحو أقرب مكان عامر لأشعر بالأمان، ولم أذهب نحو تلك المسالك القصيّة منذ ذلك الحين. كُتب لي عمر جديد إذ نجوت من ذلك الحيوان الضاري. أوَ لم يقتل أدونيس الأسطورة على يدي خنزير وحشي؟ أوَ لم يتعرّض الملك روبرت باراثيون لنفس المصير؟ لا شكّ أنّني محظوظ جدّا لأنّي سلمت مما وقعت فيه هذه الشخصيات الخيالية.

لكنّ الخنزير الوحشي هو كذلك بومبا، رفيق النمس تيمون في مغامرات الصور المتحرّكة. وهو هناك مخلوق ظريف، رغم نتن رائحته، يعيش وفق مذهب الهاكونا ماتاتا (أي دون أيّ قلق). أخال خنازير النحلي من هذه الطينة. تعدّدت لقاءاتنا بعد هذه المصافحة الأولى، وأصبحت تغشى الأحياء القريبة من النحلي، كرياض الأندلس والنصر، فيمكن أن تشاهد سربا من الخنانيص تقطع الطريق باحثة عن الطعام في النفايات، ولا يبدو أنها آذت أحدا. يبدو أنّ نعت "وحشيّ" صار مجازا، إذ لم تعد هذه الحيوانات تخشى الناس، فهي لا تهرب حين رؤيتهم وإنما تواصل أكلها في هدوء. كما لم يعد الناس يخشونها. منذ أسابيع، شاهدت أبا وابنيه (الذين لم يكن أكبرهما يتجاوز ستّ سنوات) يقفون على مسافة مترين من الخنازير متأمّلين إيّاها بعجب، فيما الأب يصوّرها بهاتفه. قد أصبحت الخنازير الوحشية حيوانات أليفة الآن!

أقرأ أحيانا منشورات من المتساكنين يبثّون من خلالها تخوّفاتهم من تكاثر الخنازير، وعادة ما يعلّق عليها البعض أنّ هذه الحيوانات في بيئتها الطبيعية، وأنّ البشر هم من يزعجونها لا العكس. أبتسم لقراءة مثل هذه التعليقات، فلو كنّا حريصين فعلا على احترام الطبيعة وكائناتها، لَما بُنيت أحياء -بل مدن- بأسرها فوق غابات ومناطق جبلية، دون أيّ اعتبار للتنوّع البيولوجي ولحقّ الكائنات- من غير البشر- في الحياة. فات الأوان على هذا العيش المتناغم مع الطبيعة! أمّا إذا شئنا أن نعبّر عن تعاطفنا البالغ مع هذه الكائنات الوحشية المسكينة، فيُمكن مثلا أن نشيّد تمثالا ضخما لخنزير وحشي في مدخل النحلي (يسجّله مسؤول ما في قائمة إنجازاته) أو ننشئ فريقا رياضيا نُطلق عليه اسم "الخنزير الرياضي بالنحلي". ربّما سيأتي يوم يصبح فيه الخنزير الوحشي رمزا من رموز البلاد، فنراه على ورقة المائة دينار (عندما تصدر) أو يتصدّر حملات السياحة البيئية. حينها، سأحكي لابني أنني من الأوائل الذين صادقوه قبل أن يصير نجما. وسأضيف بفخر: لقد نظر إليّ في العين مباشرة... ولم يهاجمني!


الأحد، 20 أبريل 2025

هذا ليس شعرا



إذا كنت تقرأ شعري
وفكّرت: ليس له أيّ معنى
فأنت محقّ
فكاتبه نفسه ليس يفهمه
وإذا ما رأيت الخيال نحيلا
كأنّ به علّة الموت
لا تتعجّب
فإنّ المداد رسول السواد
وإن جَرَحَتْ صورة ما شعورك
فاللطفَ أطلُبُ يا صاح
قد مرّ بي مثل ذاك
إذا ما كرهت نشاز القوافي
وقلت: عساه يعلّبها مثلما اعتاده الشعراء
فأنت تصيب فؤاد الحقيقة
لكنّها هكذا قَدِمَتْ
ليتها طَلَبت منك إذنا!
لعلك لست ترى ذاك شعرا
صدقت وأبررت
حتى أنا، كي أكون صريحا، أراه كذلك
لا لون فيه خلاف الرماد
ولكن تعال أخبّرك 
بعض المجانين يركب مكنسة
كي يطير تجاه الأعالي
فلا تأخذ الأمر جدّا
ودعني أحلّق فوق جوادي

الأحد، 13 أبريل 2025

الجدارة في مقابل التبادلية

 


في عالم مثالي، تكون الجدارة معيار التقييم الوحيد.  بمعنى أنه لينال الإنسان شيئا، ينبغي أن يكون مستحقّا له، سواء بالنظر إلى كفاءته الشخصية (كحقه في أن ينال عملا يناسب مؤهلاته) أو إلى حقوقه (كأن يتحصل على خدمة معيّنة لكونه مواطنا أو مستهلكا أو تلميذا أو غير ذلك من الصفات). ومن واجب القانون، كمنظومة مثالية نظريا، أن يكرّس مثل هذا التطابق.

لطالما آمنت بأن الجدارة هي الطريق الوحيد الذي يمكن سلوكه. ربما كان ذلك بفعل نزعة مثالية مزمنة جعلتني أميل إلى ما يجب أن يكون، لا ما هو كائن، أو ربما لأن تكويني القانوني رسّخ لديّ قناعة بأن الحقوق يجب أن تُمنح لا أن تُفتك، وأن الكفاءة يجب أن تُكافأ لا أن تُساوَم. كنت أرى الجدارة كمقياس طبيعي، إن اختلّ، اختلت معه قيم المجتمع ومعايير النجاح. كل ما عداها، في نظري آنذاك، لم يكن سوى تسميات مخففة للمحسوبية والفساد.

لكن مع الوقت، ومع خيبات شخصية صغيرة راكمتها التجربة، تجاوزت غرارة الصبا وبدأت أفهم. بدأت أرى كيف أن العالم، أو على الأقل مجتمعنا، لا يشتغل بمنطق الجدارة بقدر ما يتحرك بقوانين التبادلية.  الناس لا يتعاملون معك على أساس ما تستحقه، بل على أساس ما يمكنك أن تمنحهم إياه، أو ما تقدر على فعله من أجلهم. المحسوبية لم تعد تبدو لي انحرافًا عرضيًا عن المسار، بل صارت جزءًا من نظام كلّي له منطقه الخاص، منطق لا يعترف بالاستحقاق إلا إذا جاء مرفقًا بمنفعة متبادلة.

الأمثلة على ئلك أكثر من أن تعدّ. يكفي أن ترى كيف تُقضى الحوائج في الإدارات. إذا كنت مبعوثا من سي فلان، فستفتح أبواب كانت مغلقة. أمّا إذا لم يعرفك أحد، فحتّى الأبواب المفتوحة يمكن أن تُغلق. وأهل الإدارة بارعون في إيجاد الحجج التي تعفيهم من القيام بأيّ شيء. الوظيفة لا تعني خدمة الصالح العام، بل هي نفوذ ممنوح بسلطة تقديرية تمكّن صاحبها من إسداء خدمات معيّنة والحصول في مقابلها على خدمات مماثلة. أمّا إذا لم يكن لك ما تستند إليه سوى حقّك، فستكون أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام.

في الميدان الثقافي، وهو ميدان من المفروض أن يكون راقيا، الموهبة الصرف تضيع بسهولة إذا لم يكن لصاحبها ما "يفيد" به الفاعلين في المجال. جزء لا بأس به من الاستضافات في الملتقيات الأدبية يخضع لهذا المنطق: أستضيفك اليوم لتستضيفني غدا (غالبا على حساب المال العمومي في كلتا الحالتين) أو لتكتب عنّي أو لتقتني منّي نسخا من إصداري الجديد الذي كان ليتعفّن في قبو ما. أعرف عدد من الأصوات المميزة التي كانت تبشّر بمستقبل زاهر في الميدان الأدبي قبل أن يأكلها النسيان لأنّه لم يكن لها قيمة تبادلية في هذا المسار. هي موهوبة وكفى، فلتبق موهبتها دفينة ما دمت لن أستفيد منها شيئا! هذا ممّا يفسّر بشكل جزئي ركود الساحة الأدبية عندنا، فهي في الغالب لا تقوم على التميّز.

ويبلغ رهان التبادلية أقصاه في الميدان السياسي وبخاصة وقت الانتخابات. في وقت مضى، عندما كانت لنا بعض الحريات، كان هناك من يرفعون أصواتهم للتنديد بـ"المال السياسي الفاسد" في خضمّ الانتخابات. وفي الحقيقة، ليس المال إلا جزءا من المعادلة. من خلال قراءة كتاب جماعي صدر منذ بضعة شهور بإشراف المولدي الأحمر بعنوان "الانتخابات التشريعية في تونس بعد الثورة: نقد أسس المشروعية السياسية للنخب"، يمكن أن نفهم أنّ جزءا كبيرا من التحشيد الانتخابي لم يكن يستند لا على البرامج ولا على المواقف، وإنّما بالأساس على هذا المنطق التبادلي. بمعنى آخر، كفاءة المترشّح أو نزاهته أو فصاحته لا تهمّ بقدر ما يهمّ النفع الذي يمكن أن يقدّمه لي بشكل مباشر. إذا أمكنه توظيف ابني أو التوسّط لإخراج ابن أخي من مركز الإيقاف، فهو مرشّح جيّد وسأصوّت له. أمّا إذا لم يكن له من المزايا سوى برنامج يعد بالعدالة الاجتماعية وسيرة تزخر بالإنجازات الأكاديمية ومسيرة نضالية باهرة، فذلك لا يعني شيئا! وهكذا، خسر كثير من المتمرّسين في النضال السياسي المعارك الانتخابية لأنهم لم يفهموا كيف يفكّر الناخب.

ربّما حاولت الدولة الوطنية في بادئ الأمر تكريس معيار الجدارة، وما "المصعد الاجتماعي" الذي يكثر التحسّر عليه إلا عنوان لذلك، حيث كان يمكن للنجابة في الدراسة وحدها أن تكفل مستقبلا مشرقا لصاحبها. لكنّ حبال هذا المصعد تآكلت، حتّى لم يعد يمكنه أن يتجاوز القبو. أذكر مسؤولا رفيعا في العهد البائد كان مكروها من أهل بلدته، رغم كفاءته العالية التي أتاحت له شغل عديد المناصب. لم يكن ذنبه ليستحقّ هذه الكراهية إلّا لكونه "لم يخدم" أهل بلدته، بمعنى أنّه لم يمنحهم امتيازات فلم يربحوا منه شيئا! كلّ ذنب المسكين أنّه امتنع عن المحاباة!

المنطق السائد للنجاح اليوم يقترب من منطق العصابات. لنذكر دون كورليوني في فيلم "العرّاب" إذ جاءه من يطلب منه خدمة، فأجابه إليها بعد لأي، ولكن بشرط "في يوم ما، وقد لا يأتي هذا اليوم أبدا، قد أطالبك بردّ هذه الخدمة". هذه هي التبادلية في أوضح تجلياتها. ولعلّ مشكل الحالمين في هذا الوطن أنّ حلمهم منعهم من الانخراط في العصابات، فلم يبق لهم مكان غير الهامش.