في المرّة الأولى التي واجهت فيها خنزيرا وحشيّا، ظننتُ أنّي على وشك الموت.
كان ذلك منذ ثماني أو تسع سنوات. كُنتُ أسير في منتزه النحلي، في طريق
العين القديمة تحديدا. بدا لي أن أطيل نزهتي، من باب الرياضة، فسلكت سبيلا غير
مطروق ومشيتُ فيه لساعة أو نحوها حتّى حسبت أنني على وشك أن أضلّ. كُنتُ على بعد
كيلومترات من المدخل الرئيسي، لمّا رأيته.
كان ينزل من أعلى الجبل ماشيا الهوينى. وصل إلى المسلك الذي كنتُ أتبعه
وتوقّف للحظة ونظر إليّ. جمد الدم في عروقي، ولعلّ المشهد الذي استحضرته ذاكرتي في
تلك اللحظة هو مقتل الطفل في شريط "ريح الفرنان" على يدي حيوان مماثل.
هيّء إليّ حينها أنّ الواقف أمامي بحجم الثور. لم أعرف ما عليّ أن أفعل، فلا أحد على
مقربة منّي بإمكانه أن ينجدني، ومن الأكيد أنّه لم يكن من الممكن أن أركض أسرع
منه. المعلومة الوحيدة الّتي خطر لي أن أستعملها -وهي على الأرجح مأخوذة من وثائقيّ
عن الدببة ولا علاقة لها بالخنازير- أن أظلّ واقفا مكاني دون حراك حتى لا أستفزّه.
وكان ذلك ما فعلته.
لم يدم الموقف سوى بضع ثوان. لم يعرني ذلك المخلوق الضخم أيّ اهتمام، وأكمل
طريقه نزولا. تنفّست الصعداء وحثثت الخطى نحو أقرب مكان عامر لأشعر بالأمان، ولم
أذهب نحو تلك المسالك القصيّة منذ ذلك الحين. كُتب لي عمر جديد إذ نجوت من ذلك
الحيوان الضاري. أوَ لم يقتل أدونيس الأسطورة على يدي خنزير وحشي؟ أوَ لم يتعرّض
الملك روبرت باراثيون لنفس المصير؟ لا شكّ أنّني محظوظ جدّا لأنّي سلمت مما وقعت
فيه هذه الشخصيات الخيالية.
لكنّ الخنزير الوحشي هو كذلك بومبا، رفيق النمس تيمون في مغامرات الصور
المتحرّكة. وهو هناك مخلوق ظريف، رغم نتن رائحته، يعيش وفق مذهب الهاكونا ماتاتا (أي
دون أيّ قلق). أخال خنازير النحلي من هذه الطينة. تعدّدت لقاءاتنا بعد هذه
المصافحة الأولى، وأصبحت تغشى الأحياء القريبة من النحلي، كرياض الأندلس والنصر،
فيمكن أن تشاهد سربا من الخنانيص تقطع الطريق باحثة عن الطعام في النفايات، ولا
يبدو أنها آذت أحدا. يبدو أنّ نعت "وحشيّ" صار مجازا، إذ لم تعد هذه
الحيوانات تخشى الناس، فهي لا تهرب حين رؤيتهم وإنما تواصل أكلها في هدوء. كما لم
يعد الناس يخشونها. منذ أسابيع، شاهدت أبا وابنيه (الذين لم يكن أكبرهما يتجاوز
ستّ سنوات) يقفون على مسافة مترين من الخنازير متأمّلين إيّاها بعجب، فيما الأب
يصوّرها بهاتفه. قد أصبحت الخنازير الوحشية حيوانات أليفة الآن!
أقرأ أحيانا منشورات من المتساكنين يبثّون من خلالها تخوّفاتهم من تكاثر
الخنازير، وعادة ما يعلّق عليها البعض أنّ هذه الحيوانات في بيئتها الطبيعية، وأنّ
البشر هم من يزعجونها لا العكس. أبتسم لقراءة مثل هذه التعليقات، فلو كنّا حريصين
فعلا على احترام الطبيعة وكائناتها، لَما بُنيت أحياء -بل مدن- بأسرها فوق غابات
ومناطق جبلية، دون أيّ اعتبار للتنوّع البيولوجي ولحقّ الكائنات- من غير البشر- في
الحياة. فات الأوان على هذا العيش المتناغم مع الطبيعة! أمّا إذا شئنا أن نعبّر عن
تعاطفنا البالغ مع هذه الكائنات الوحشية المسكينة، فيُمكن مثلا أن نشيّد تمثالا
ضخما لخنزير وحشي في مدخل النحلي (يسجّله مسؤول ما في قائمة إنجازاته) أو ننشئ
فريقا رياضيا نُطلق عليه اسم "الخنزير الرياضي بالنحلي". ربّما سيأتي يوم يصبح فيه
الخنزير الوحشي رمزا من رموز البلاد، فنراه على ورقة المائة دينار (عندما تصدر) أو
يتصدّر حملات السياحة البيئية. حينها، سأحكي لابني أنني من الأوائل الذين صادقوه قبل
أن يصير نجما. وسأضيف بفخر: لقد نظر إليّ في العين مباشرة... ولم يهاجمني!