الأحد، 5 أكتوبر 2025

الطائر الهاوي...تجربتي الأولى مع الموت

حدث ذلك في عُطلة، أخالها عطلة الربيع، لمّا كنتُ في سنّ السادسة. كعادتي وعادة لداتي من أبناء العائلة، كُنت أقضي أغلب أوقات الفراغ، إن لم نقل كلّها، بدار جدّتي. كنّا نلهو طول الوقت متمتّعين باللمجات التي لا تنتهي التي تمدّنا بها ميما. كان يوما معتدلا مناسبا للعب في الفضاء الخارجي. كنّا نتقاذف الكرة في الفناء الاسمنتي المجاور للمطبخ. لا أدري كيف كان ذلك المكان الذي لا تتجاوز مساحته بضعة أمتار مربعة يسعنا.
قطع لهونا صوت خافت يشبه الزقزقة. لم نبحث طويلا. قرب الحائط الخارجي، كان هناك عصفور صغير واقع على الأرض. أظنه كان من نوع الدوري (البوزويش). لم نكن نعلم تحديدا من أين أتى، ولكن كان هناك عشّ مُقام على عمود الإنارة على الجهة المقابلة من النهج، وافترضنا أنه سقط من هناك، وإن لم نلحظ أثرا لعصافير أخرى من نفس النوع يومها.
تحلقنا حوله. كان بالكاد يتحرك، ويبدو أنه يتنفس بصعوبة. لم نعرف ماذا نفعل معه. كيف بالإمكان أن ترعى طائرا لا يقدر على الطيران؟ خمنّا أنه لا شكّ عطشان وجوعان. كان لنا شيء من الحبوب التي كنّا نطعم بها الصيصان التي نشتريها والتي لا تعيش إلا لساعات أو أيام على أقصى تقدير. جئناه بشيء منها فلم يتناول منه شيئا. ولكن لمّا جئناه بالماء، شرب منه شيئا قليلا، وهلّلنا كلنا لذلك.
قضينا ساعات برفقة ذلك الطائر. كنّا ننتبه لكلّ حركة يبديها ويخيّل إلينا أنها دليل على أنه يتعافى. حفظنا ملامحه حتى خلنا أنه بإمكاننا أن نميّزه عن أقرانه، بذلك الاحمرار الخفيف الذي يمتزج بالبنّي في أعلى رأسه وجناحيه، وبتلك البقعة السوداء الصغيرة أسفل منقاره، وبذلك الملمس الناعم لزغبه الأبيض الذي يغطي بطنه وبتلك الرنة الخافتة في صوته المتعب.  بل أننا بدأنا ننسج مخططات لمستقبله: هل نخصص له قفصا يكمل فيه تعافيه بعيدا عن القطط والكلاب التي تتربص به؟ أم يجدر أن نطلقه في الطبيعة فورا؟
من العجيب أنني لم أمنحه اسما. كنت مولعا بتسمية كل شيء، كأنني أقفو أثر جدّي آدم. لكنّ التسمية امتلاك، ولعلّي كنت أستبطن أنّه مما لا يمكنني امتلاكه.
بعيد الغداء، أردنا تفقّده، ولكنه لم يكن يتحرك. ما باله؟ ألم يكن يومئ برأسه ويشرب الماء قبل قليل؟ ألم تتحسن حاله حتى خلنا أنه سيعود إلى الطيران قريبا؟ في خضمّ تلك الحيرة، لا أدري تحديدا من نطق بتلك الجملة "لقد مات"...
وجدت نفسي أنفجر في نوبة طويلة من البكاء. ربما كان ذلك حزنا على ذلك الكائن الرقيق الذي أفقده حادث عارض حياته. ربما كان ذلك أسفا على صداقة مأمولة بدأت أنسج أحلامها. ربّما كان ذلك خوفا من هذه النهاية المفاجئة التي تعصف بالأرواح...
أخذ الجميع يواسونني ويحاولون تهدئتي، ويعدونني باقتناء طائر أجمل. لكني لم أكفّ عن البكاء. تفتقت قريحة ابن عمي عن فكرة سرعان ما رضيت عنها: سنقيم مراسم دفن لهذا العصفور. أعددنا ما يشبه التابوت من الأخشاب التي كانت بورشة جدي. حفرنا حفرة صغيرة قرب مدخل الدار ووضعنا جثة العصفور هناك، وغطيناها بتلك الأخشاب. لعلّ أحدنا نطق ببعض الكلمات التأبينية حينها. وهكذا ودّعت ذلك الكائن الذي عبر حياتي لساعات... 

ليست هناك تعليقات: