إنّ فكرة الخوف المهيمن على ثقافتنا يمكن أن تفسّر(و لو بشكل جزئي) وجود اتّجاهين متضادين و متطرّفين (و كلّ تطرّف مذموم) في المجتمع اليوم: اتّجاه أوّل محدود و لكنّه موجود على كلّ حال يتمثّل في البعد عن الدّين الإسلامي سواء كان ذلك باتّباع طريق التنصّر ( و قد رأيت مقطعا في أحد المواقع يبرّر فيه أحدهم تنصّره بأنّه وجد الله في الإسلام بعيدا عن البشر، و أيّ بعد أكثر من أن يكون الله قامعا لخلقه، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا) أو باتّباع طريق الإلحاد أي نبذ فكرة الدّين نهائيّا و أعتقد أنه في الحالتين وقع هناك دمج في الأذهان بين ثقافة مصطبغة بالدّين تكرّس الخوف في جلّ جوانبها و تمنع من تحقيق الذات و بين الدّين ذاته ممّا أدّى بأصحاب هذا الاتّجاه أن يهربوا إلى حلّ جذريّ عنيف و تبسيطيّ للغاية إذ رفضوا الدّين (الإسلامي) اعتقادا أنّه تسبّب في وجود هذه الثقافة. أمّا الاتّجاه الثاني الأكثر انتشارا هذه الأيّام فهو "التديّن المفرط" الّذي يمارسه بعض الشبّان بإطلاق لحاهم و ارتداء "عرّاقية" و قميص فضفاض و الحرص على أن يكون السروال مشمّرا يعلو الكعبين بما لا يقلّ عن 2,5 مم و كذلك بعبوس الوجوه و التذمّر من الانحراف عن "السلف الصالح". هؤلاء هربوا من الخوف إلى مزيد من الخوف فداووا خوفهم المتولّد من الخضوع لسلطة الخوف إلى الانخراط في هذه السلطة و ممارستها ضدّ الآخرين. هؤلاء يظنّون أنّهم امتلكوا الطمأنينة و راحة البال في طرفة عين و لكن ما امتلكوه حقّا هو السلطة، سلطة الاستحواذ على "الحقيقة المطلقة" و التحدّث باسمها و حتّى إجبار الآخرين على الانصياع إليها فتراهم يعظون الفسّاق العاصين (الّذين كانوا منهم بالأمس) بل و يمارسون أحيانا الإفتاء في ثقة المتيقّن من علمه الغزير الّذي قضّى في تحصيله أكثر من 24 ساعة ( كما يقول عنهم أحد الأصدقاء: يصلّي ركعتين ثمّ يفتي).
و لا تقتصر آثار هذه الثقافة على إنتاج التطرّف باتّجاهيه، فمثل هذه المواقف تبقى، إلى حدّ الآن فيما أرى، هامشيّّة و مقتصرة على عدد محدود من الأفراد ولكن لعلّ خطورة هذه الثقافة تكمن في كونها لا تقتصر على الجانب الديني "البحت" بل تمتدّ لتشمل كافة جوانب الحياة و تؤسّس للاستبداد و القمع في جميع مستوياتها وهو ما يعزى إلى ما يمكن تسميته " الطابع التأسيسي للدّين" (لعلّها سمة مشتركة لمجتمعات ما قبل الحداثة) إذ أنّ جميع السّلط في المجتمع،انطلاقا من العائلة (سلطة الزوج، الأب) وصولا إلى الدّولة، تستمدّ مشروعيّتها بشكل من الأشكال من الدّين حتّى و إن كانت علاقتها بالدّين لا تعدو أن تكون شكليّة، إذ أنّ النظرة إلى الدّين في هذه المجتمعات لا تعرف الوقوف عند حدود العبادات و الغيبيّات بل لا بدّ أن يكون له (أي الدّين) موقف من كلّ ما يحدث في المجتمع، فلا تتأسّس سلطة داخله إلا بمباركته، ففيما يخصّ السلطة السياسيّة مثلا نجد أنّ بعض الدّول "الحديثة" تستند إلى مفهوم الإجماع المأخوذ من علم أصول الفقه ( و هو مفهوم غامض لا يكاد يتّفق على مضمونه فقيهان و هذا الغموض يستغلّ من طرف من يملك القوّة اللازمة للتحدّث باسمه) لتبرّر قمعها لجميع من يخالفها بدعوى حماية المجتمع من الطغمة الفاسدة الّتي تهدّد "إجماع" المجتمع. و تتعزّز هذه المشروعية إذا كانت السلطة السياسيّة تحتكر الحديث باسم الدّين و ذلك من خلال تدويل مؤسسّاته كدور الإفتاء(انظر أسماء نويرة بن دعيّة، مفتي الجمهوريّة في تونس) و احتكار وظيفة الإشراف عليه و تعميم الدعاء لوليّ الأمر على المنابر، و لا ننسى أنّ طاعة وليّ الأمر مبدأ متّفق عليه بين جلّ المذاهب على اختلاف أسسها إذ يؤسّسه الشيعة على نظريّة عصمة الإمام (وهي نظريّة يبدو أنّه وقع تبنّيها من قبل أنظمة معاصرة غير شيعيّة) و يؤسّسه السنّة على الخوف من الفرقة حتّى إن كان الحاكم وصل إلى الحكم بطريقة غير شرعيّة إذ يقول الشافعي أنّ أيّ قرشيّ غلب على الخلافة بالسيف حتّى بايعه الناس فهو خليفة (انظر محمّد الجويلي، صورة الزعيم في المخيال العربي الإسلامي). فالعلاقة بين الحاكم و المحكوم في مثل هذه المجتمع لا تتأسّس على عقد اجتماعي عقلاني يقوم على توازن بين حقوق و واجبات كلّ منهما بل أنّ كفّة الميزان تميل بشكل واضح في اتّجاه تكريس واجب الطاعة المطلقة لوليّ الأمر، باعتبارها فريضة دينيّة، بما تعنيه هذه الطاعة من خضوع و امتثال و..خوف، إذ يكون من يعارض هذه السلطة أو يجرؤ على مناقشتها زائغا ضالا مضلا منحرفا عن "إجماع المجتمع" يجب استئصاله للحفاظ على كيان "الأمّة". لذلك إذا ما تمادى صاحب السلطة في الظلم فإنّ الحلّ هو الصبر "الجميل" على الأذى (فرارا من وصمة الانحراف هذه) و انتظار قد يبلغ الأبديّة لمجيء الحاكم المثالي الّذي تتماهى صورته عندنا مع صورة "المستبدّ العادل"، ذلك المستنير الّذي يمسك بزمام جميع الأمور بيده و يقودنا بعصاه إلى تحقيق الفردوس الأرضي و هذا النوع من الحكم "يفترض إماما معصوما و مالكا للحقيقة بالكشف و الإلهام، حكم يفصل بين الراعي و الرعيّة و يجعل بينهما نفس المسافة الّتي تفصل راعي الإبل عن إبله" (سليم اللغماني، "الحداثة و الديمقراطيّة"، في "مقالات في الحداثة و القانون").
(يتبع)