الخميس، 17 يوليو 2025

الأربعون...عندما هرمتُ دفعة واحدة


عندما بلغ المنفلوطي سنّ الأربعين، كتب مقالة يقول في افتتاحها: "الآن وصلتُ إلى قمة هرم الحياة، والآن بدأتُ أنحدر في جانبه الآخر، ولا أعلم هل أستطيع أن أهبط بهدوءٍ وسكونٍ حتى أصل إلى السفحِ بسلام، أو أعثر في طريقي عثرة تهوي بي إلى المصرعِ الأخير هويّاً."

منذ قرأت هذه المقالة، ولمّا أكن جاوزت العشرين، وأنا أفكّر فيما عساني أقول إن بلغتُ هذه السنّ. كانت هذه اللحظة تتراءى لي بعيدة للغاية، في وقت كان فيه البعد الرومنطيقي-التراجيدي غالبا عليّ، فزعا ربّما من شبح الشيخوخة وطموحا إلى شباب أبديّ كالذي ناله أبو القاسم الشابي مثلا. وربّما كنت أعزّي النفس بالتفكير أنّها سنّ النبوة. من يدري؟ لعلّي إن بلغتُها أكون قد اقتربتُ فعلا من تلمّس شيء من "الحكمة".

جاءت هذه اللحظة أخيرا. لم ينزل عليّ الوحي حينها، ولم أبق فتيا كالشابي. وإنّما كنتُ في منعرج جديد على طريق الحياة. لا شكّ أنّني مررتُ بمنعرجات عديدة قبله، لكنّ هذا هو أخطرها بلا مراء. وجدتُ نفسي في هذه السنّ أتحمّل مسؤولية قرارات اتّخذتها عن وعي واستعداد لدفع الثمن، كما وجدتُ نفسي أتحمّل مسؤولية كلّ القرارات التي تردّدت في اتخاذها وأحجمت عن خوضها. كلّ ما خفتُ منه وتجنّبته طيلة سنوات عاد ليلسعني في قدمي كالعقرب، لأرتدّ متوجّعا حائرا أتساءل إن كان عليّ أن أبدأ الطريق من جديد.

تسقط طواحين الهواء في الأربعين. هي لا تتحلّل شيئا فشيئا، بل تتبخّر كأن لم تكن، لتتركك في مواجهة الواقع وصفعاته. ربّما اتّقيت بمثالياتك الكثير من السموم، ولكن ما كان بوسعك أن تظلّ بمعزل عنها إلى الأبد. أبيت أن تكبر، ثمّ هرمتَ فجأة، في لحظة واحدة.

في الأربعين، تصير حصينا تجاه الخيبات. قد تلقّيت منها جُرعات عديدة، فلم يعد لديها أيّ أثر عليك. آمنت، في لحظة ظننتها استثنائيةـ سُمّيت لاحقا بالانفجار غير المسبوق- أنّ كلّ شيء سيتغير وأنّ التاريخ نفسه سيتّخذ مسارا آخر نحو الحرية والكرامة والعدالة لكيلا تظلّ حكرا على أمم دون أخرى. ثمّ أفقت وأنت تقرّع نفسك أن لم تكن قفزت من المركب قبل أن تغرق.

في الأربعين، لا شيء مهمّ سوى المتع الصغيرة. أضحت السرديات الكبرى تثير لديك ضحكة ساخرة. أصبحتَ تبحث فقط عن قطع صغيرة من السلام: جلسة طويلة تحت شجرة صنوبر، غطسة في بحر معزول، ضحكة مجلجلة من طفلك، حضن دافئ، قطعة من موسيقى اكتشفتَها للتو، ثمالة قهوة نسيت وجودها في الفنجان…

لم يعش المنفلوطي حتى يحدّثنا عن الخمسين وما بعدها. من يدري ما كان عساه يقول؟ لعلّه كان يجد في الانحدار من أعلى هرم الحياة مباهج لم تخطر له ببال. أو ربمّا أنا فقط أعلّل النفس بالآمال أرقبها… 

ليست هناك تعليقات: