الأحد، 13 أبريل 2025

الجدارة في مقابل التبادلية

 


في عالم مثالي، تكون الجدارة معيار التقييم الوحيد.  بمعنى أنه لينال الإنسان شيئا، ينبغي أن يكون مستحقّا له، سواء بالنظر إلى كفاءته الشخصية (كحقه في أن ينال عملا يناسب مؤهلاته) أو إلى حقوقه (كأن يتحصل على خدمة معيّنة لكونه مواطنا أو مستهلكا أو تلميذا أو غير ذلك من الصفات). ومن واجب القانون، كمنظومة مثالية نظريا، أن يكرّس مثل هذا التطابق.

لطالما آمنت بأن الجدارة هي الطريق الوحيد الذي يمكن سلوكه. ربما كان ذلك بفعل نزعة مثالية مزمنة جعلتني أميل إلى ما يجب أن يكون، لا ما هو كائن، أو ربما لأن تكويني القانوني رسّخ لديّ قناعة بأن الحقوق يجب أن تُمنح لا أن تُفتك، وأن الكفاءة يجب أن تُكافأ لا أن تُساوَم. كنت أرى الجدارة كمقياس طبيعي، إن اختلّ، اختلت معه قيم المجتمع ومعايير النجاح. كل ما عداها، في نظري آنذاك، لم يكن سوى تسميات مخففة للمحسوبية والفساد.

لكن مع الوقت، ومع خيبات شخصية صغيرة راكمتها التجربة، تجاوزت غرارة الصبا وبدأت أفهم. بدأت أرى كيف أن العالم، أو على الأقل مجتمعنا، لا يشتغل بمنطق الجدارة بقدر ما يتحرك بقوانين التبادلية.  الناس لا يتعاملون معك على أساس ما تستحقه، بل على أساس ما يمكنك أن تمنحهم إياه، أو ما تقدر على فعله من أجلهم. المحسوبية لم تعد تبدو لي انحرافًا عرضيًا عن المسار، بل صارت جزءًا من نظام كلّي له منطقه الخاص، منطق لا يعترف بالاستحقاق إلا إذا جاء مرفقًا بمنفعة متبادلة.

الأمثلة على ئلك أكثر من أن تعدّ. يكفي أن ترى كيف تُقضى الحوائج في الإدارات. إذا كنت مبعوثا من سي فلان، فستفتح أبواب كانت مغلقة. أمّا إذا لم يعرفك أحد، فحتّى الأبواب المفتوحة يمكن أن تُغلق. وأهل الإدارة بارعون في إيجاد الحجج التي تعفيهم من القيام بأيّ شيء. الوظيفة لا تعني خدمة الصالح العام، بل هي نفوذ ممنوح بسلطة تقديرية تمكّن صاحبها من إسداء خدمات معيّنة والحصول في مقابلها على خدمات مماثلة. أمّا إذا لم يكن لك ما تستند إليه سوى حقّك، فستكون أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام.

في الميدان الثقافي، وهو ميدان من المفروض أن يكون راقيا، الموهبة الصرف تضيع بسهولة إذا لم يكن لصاحبها ما "يفيد" به الفاعلين في المجال. جزء لا بأس به من الاستضافات في الملتقيات الأدبية يخضع لهذا المنطق: أستضيفك اليوم لتستضيفني غدا (غالبا على حساب المال العمومي في كلتا الحالتين) أو لتكتب عنّي أو لتقتني منّي نسخا من إصداري الجديد الذي كان ليتعفّن في قبو ما. أعرف عدد من الأصوات المميزة التي كانت تبشّر بمستقبل زاهر في الميدان الأدبي قبل أن يأكلها النسيان لأنّه لم يكن لها قيمة تبادلية في هذا المسار. هي موهوبة وكفى، فلتبق موهبتها دفينة ما دمت لن أستفيد منها شيئا! هذا ممّا يفسّر بشكل جزئي ركود الساحة الأدبية عندنا، فهي في الغالب لا تقوم على التميّز.

ويبلغ رهان التبادلية أقصاه في الميدان السياسي وبخاصة وقت الانتخابات. في وقت مضى، عندما كانت لنا بعض الحريات، كان هناك من يرفعون أصواتهم للتنديد بـ"المال السياسي الفاسد" في خضمّ الانتخابات. وفي الحقيقة، ليس المال إلا جزءا من المعادلة. من خلال قراءة كتاب جماعي صدر منذ بضعة شهور بإشراف المولدي الأحمر بعنوان "الانتخابات التشريعية في تونس بعد الثورة: نقد أسس المشروعية السياسية للنخب"، يمكن أن نفهم أنّ جزءا كبيرا من التحشيد الانتخابي لم يكن يستند لا على البرامج ولا على المواقف، وإنّما بالأساس على هذا المنطق التبادلي. بمعنى آخر، كفاءة المترشّح أو نزاهته أو فصاحته لا تهمّ بقدر ما يهمّ النفع الذي يمكن أن يقدّمه لي بشكل مباشر. إذا أمكنه توظيف ابني أو التوسّط لإخراج ابن أخي من مركز الإيقاف، فهو مرشّح جيّد وسأصوّت له. أمّا إذا لم يكن له من المزايا سوى برنامج يعد بالعدالة الاجتماعية وسيرة تزخر بالإنجازات الأكاديمية ومسيرة نضالية باهرة، فذلك لا يعني شيئا! وهكذا، خسر كثير من المتمرّسين في النضال السياسي المعارك الانتخابية لأنهم لم يفهموا كيف يفكّر الناخب.

ربّما حاولت الدولة الوطنية في بادئ الأمر تكريس معيار الجدارة، وما "المصعد الاجتماعي" الذي يكثر التحسّر عليه إلا عنوان لذلك، حيث كان يمكن للنجابة في الدراسة وحدها أن تكفل مستقبلا مشرقا لصاحبها. لكنّ حبال هذا المصعد تآكلت، حتّى لم يعد يمكنه أن يتجاوز القبو. أذكر مسؤولا رفيعا في العهد البائد كان مكروها من أهل بلدته، رغم كفاءته العالية التي أتاحت له شغل عديد المناصب. لم يكن ذنبه ليستحقّ هذه الكراهية إلّا لكونه "لم يخدم" أهل بلدته، بمعنى أنّه لم يمنحهم امتيازات فلم يربحوا منه شيئا! كلّ ذنب المسكين أنّه امتنع عن المحاباة!

المنطق السائد للنجاح اليوم يقترب من منطق العصابات. لنذكر دون كورليوني في فيلم "العرّاب" إذ جاءه من يطلب منه خدمة، فأجابه إليها بعد لأي، ولكن بشرط "في يوم ما، وقد لا يأتي هذا اليوم أبدا، قد أطالبك بردّ هذه الخدمة". هذه هي التبادلية في أوضح تجلياتها. ولعلّ مشكل الحالمين في هذا الوطن أنّ حلمهم منعهم من الانخراط في العصابات، فلم يبق لهم مكان غير الهامش.


ليست هناك تعليقات: