في ظهيرة يوم من أيّام الصيف الحارة، والطرق قد خلت من جميع المارة، كانت النملة تدحرج أمامها حبّة قمح، وتكدح لذلك أشدّ الكدح، تمنّي النفس بطعام وافر، متى جاء الشتاء بغيثه الغامر، وعندما أوصلت حملها إلى دارها، تنبّهت إلى غياب جارها، ذلك المغنّي الصرّار، فعلى غير العادة لم تسمعه طيلة النهار، فأطلّت برأسها لعلّها تراه قريبا، فألفته حذو شجرة جاثما كئيبا، يدندن في همس لحنا شجيّا، متقطّعا لا يريد أن يكون سويّا، فاقتربت منه سائلة، أين كنت إلى حين القائلة؟ فرفع رأسه وقال: دعيني أيّتها النملة، لعلّي أنهي اليوم هذه الجملة، فقالت له: لا زلت في هذيانك، لا تنظر في شأن شرابك وطعامك، أما كان خيرا لك لو جمعت بعض المؤونة، فلا تسألني أيّام البرد المعونة؟ قال لها الصرّار: أ رأيتني إن فعلت ما تفعلين، فما منتهى ذلك للعاملين؟ قالت: حسبي ما يكفيني للعيش، وبعد ذهني على خلافك من نوازع الطيش، فقال: ليس مثلي من يقول حسبي، يأبى ذلك قلبي، فقالت: فإني تاركتك هذه السنة للجوع، عسى أن يكون منك لقولي خضوع، فقال: افعلي ما تشائين، فلست لك من المتّبعين، ثمّ قام وقال: لك منّي سلام، فما أظنّني ألقاك في قادم الأيّام، ومضى مسرعا حتّى غاب بعيدا، فتنهدت النملة وقالت: طالما كان مجنونا عنيدا.
وتعاقبت الفصول، وشأن الصرّار مجهول، حتّى كادت النملة تنسى ذكره، ويغيب عنها كلّ أمره، حتّى كان شتاء، بليت الكائنات فيه أشدّ البلاء، فلم تنزل فيه قطرة من مطر، واشتدّ على الجميع من العطش الخطر، وجفّت فيه فروع الأشجار، ومالت الوجوه فيه إلى الاصفرار، وتعالى الدعاء بكشف الغمّة، واستمطار الرحمة.
وفي ليلة شديدة القر، والكلّ يداري نفاد الصبر، تناهى إلى الأسماع صوت عزف حزين خافت، كأنّه ما بقي بالقلوب من نور باهت، يخرج من أعماق قرار، فأطلّت النملة تستطلع الأخبار، فإذا بالعازف جارها الصرّار، فصاحت به: عدت أخيرا أيّها الأفّاق، فلم يردّ إذ كان مستغرقا في عزفه أشدّ استغراق، كأنّه في غير دنيا المكان، أو يسبح بين أطراف الزمان، وفجأة ارتفع صوت العزف، وفي نفس اللحظة قصف الرعد أشدّ قصف، وتسارعت النغمات، كأنّها تناجي السماوات، ومع تسارعها بدأ المطر ينزل رذاذا، وكان وقعه في القلوب أخّاذا، وبدأت موسيقى الصرّار شيئا فشيئا تكتسي بالألوان، والغيوم تلبّيها وبها تزدان، حتّى صار المطر كأفواه القرب، وعجبت الكائنات من أمر الصرّار أشدّ العجب، وصرخت النملة: حسبك قد أحسنت، فاحتم ببيتي وإلا غرقت، فلم يلتفت إلى كلامها ولا زال عازفا لا ينقطع، ينوّع على مقطوعته والسماء لا تمتنع، وحجبه عن الأنظار الانهمار، وما عاد وجوده معلنا بغير الأوتار، وبعد ساعة أو بعضها صمت الصوت أو خمد، وانقطع من السماء المدد.
وخرجت الكائنات تبحث عن الصرّار، فلم يعثروا له على أيّ آثار، وقال قائلهم: أحسب أنّه قد جرفته السيول، بعد ما كان من شديد الهطول، فابكوا ذاك البطل المجهول، فدمعت العيون، وندبه النادبون، ورثاه الراثون، والنملة بينهم باهتة ناظرة، ثمّ انقلبت إلى بيتها حائرة، وقضمت من حبّة القمح قضمة، وبنفسها شيء من بقايا نغمة...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق