ليست هبة القوّاس من الأسماء ذائعة الصيت في الساحة الفنيّة العربيّة وليست معروفة كثيرا لدى الجمهور التونسي. والحقيقة أنّي على الأرجح لم أكن لأسمع بها لولا حفلها بالمسرح البلدي بالعاصمة سنة 2005. أذكر أنّي لمّا سمعت أنّها ستفتتح مهرجان المدينة لتلك السنة، وكانت المرّة الأولى الّتي يفتتح فيها فنّان غير تونسي هذا المهرجان، استغربت كيف يمنح هذا الشرف لفنّانة مجهولة. بعد ذلك شاهدت ومضة في التلفزة التونسية تتحدّث عنها وعن حلمها لإنشاء أوبرا عربية، وتبدّل الاستغراب فضولا. ذهبت إلى شبّاك المسرح البلدي أسأل عن ثمن التذاكر فاُخبرت بسعر خيالي بالنسبة إلى طالب مثلي في ذلك الوقت (على ما أذكر 25 و15 دينار). هممت بالانصراف، فاستوقفني الموظّف ليعلمني أنّ التذاكر بأعلى المسرح ("الخمّ" أو "بيت الدجاج" كما درجت العادة على تسميته) متوفرّة بسعر خمسة دنانير. اقتنيت تذكرة واحدة، فقد كان من الصعب عليّ إيجاد رفيق يقاسمني نفس التوق للاكتشاف. ذهبت إلى تلك الأمسية الرمضانية، وكان ندمي فيما بعد كبيرا لأنّي لم أضحّ بشيء من المال لحجز أفضل مكان ممكن. كان ذلك الحفل أحد أحلى المفاجآت في حياتي. خرجت منه بين النشوة والذهول: نشوة لذلك العناق الحميم بين فخامة الموسيقى الكلاسكية وعبق الكلمة العربيّة المنتقاة بعناية، وذهول عند الخروج من المسرح بشعور من هوى بعد طول تحليق. كان الحفل خطواتي الأولى في عالم جديد يتمازج فيه الشرق والغرب دون تنافر، عالم تتألّق فيه الأحلام كنجمات حانية تضيء الطريق. أغنيتان شدّتاني بشكل خاص وقتها: "روح واتركني" لطرافة ألحانها ولطف الجناس في كلماتها وتفاعل قائد الأوركسترا الأرمني معها ومع الجمهور، و"عرفت بيروت" لمسحة الحزن الجليل التي طبعتها. وعلى الفور، حلّت هبة الله من نفسي محلّا لا يضارعها فيه سوى القدّيسة والماجدة.
بعد الحفل، حاولت جاهدا البحث عن أغاني هبة القوّاس. لم تكن أسطواناتها متوفّرة بتونس ولم أجد على الانترنت سوى عدد ضئيل من الأغاني ومقتطعات الأغاني، ولم يكن نشر فيديوهات للأغاني رائجا، وكانت مواقع الفيديو العالمية مغلقة أمام العموم. اكتفيت مؤقّتا بما وجدت وظللت أتحيّن الفرص لالتقاط إبداعاتها أغنية بعد أغنية. ولم يخب أملي قطّ. لم أجد في السنوات الأخيرة ترجمة أصدق لعمق الكلمات من ألحان إبنة صيدا وصوتها. شيء نبيل يغزو الروح عند الاستماع إليها. أنشئ الشعر الصوفي خلقا آخر مع أغانيها: "يا نسيم الريح"، "لقد صار قلبي"، "سبحان من خلق القلوب"...
منذ حوالي ثلاث سنوات تقريبا، استمعت إلى أغنية "نجوم الدني بعينيك"، ولعلّها كانت آخر عمل موسيقي أطرب له إلى حدّ الدهشة. كانت من ذلك النوع من الأغنيات التي لا تجد بدّا من الاستماع إليها مرّة بعد مرّة بعد مرّة لتتشرّبها. تكتشفها من جديد في كلّ حين، ولا تعرف ريّا.
ومعها يستمرّ الظمأ...تضنّ علينا هبة فلا نظفر منها بعمل جديد إلا في الفينة بعد الفينة. كأنّي بها لا تتقدّم في طريق حلم الأوبرا العربية إلاّ بخطوات وئيدة جدّا. ربّما يكون ذلك لأنّها لا تجد ما بين المحيط والخليج من الاهتمام ما تجده في المحافل العالمية للموسيقى الكلاسيكية. ربّما يكون ذلك لأنّ من يتذوّقون فنّها قطرات من بحار من الجماهير الباحثة عن الوجبات السريعة. أو لعلّ ذلك يرجع إلى أنّ وسائل الإعلام ومديري المهرجانات يفضّلون الأصداف على اللآلئ، إلا من رحم ربّك، ولعلّها لذلك لم تعد إلى تونس منذ تسع سنوات، رغم أنّي على يقين من أنّ عرضها الوحيد ترك أثرا لا يمّحى في قلوب جميع من حضروه.
ومعها يستمرّ الظمأ...تضنّ علينا هبة فلا نظفر منها بعمل جديد إلا في الفينة بعد الفينة. كأنّي بها لا تتقدّم في طريق حلم الأوبرا العربية إلاّ بخطوات وئيدة جدّا. ربّما يكون ذلك لأنّها لا تجد ما بين المحيط والخليج من الاهتمام ما تجده في المحافل العالمية للموسيقى الكلاسيكية. ربّما يكون ذلك لأنّ من يتذوّقون فنّها قطرات من بحار من الجماهير الباحثة عن الوجبات السريعة. أو لعلّ ذلك يرجع إلى أنّ وسائل الإعلام ومديري المهرجانات يفضّلون الأصداف على اللآلئ، إلا من رحم ربّك، ولعلّها لذلك لم تعد إلى تونس منذ تسع سنوات، رغم أنّي على يقين من أنّ عرضها الوحيد ترك أثرا لا يمّحى في قلوب جميع من حضروه.
قد يكون الأمر مزيجا من ذلك كلّه. ولكنّ الحلم لا ينتهي إلا بالموت كما يقال. سنظلّ نغالب ظمأنا ونحفظ شوقنا، عسى الشوق إلى التحليق يصنع الأجنحة...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق