كلّنا نذكر تلك السنوات التي تهافت فيها علينا "الدعاة" أفواجا. سمعنا فيها كلاما لا عهد لنا به عن إعادة فتح البلاد وكيف ينبغي أن يكون إسلام أهلها، وبلغ تمزّق المجتمع آنذاك أقصاه. ربّما تركنا تلك الفترة وراءنا، لكنّ آثارها لا تزال ماثلة فينا. لا تزال الأيادي الحمراء تضرب من حين لآخر فتحرمنا من أن ننعم بسكينة الطمأنينة، ولا يزال يعيش بيننا من يحمل حقدا أسود على كلّ من لا يشبهه.
تعود الكاتبة التونسية فاطمة بن محمود في روايتها "الملائكة لا تطير" الصادرة في طبعتها الأولى عن دار زينب للنشر سنة 2019 إلى تلك الفترة، مستقصية شيئا من إرهاصاتها وساردة لظلّها القاتم على أسرة تونسية كان عميدها سيف ممّن سُجن في أعقاب أحداث سليمان سنة 2006 ليترك زوجته ليلى حاملا فتنجب في غيابه ابنتهما نور التي لن تعرف أباها حتّى خروجه من السجن في 2011.
لا تكاد تخرج أحداث الرواية عن إطار ما يحدث داخل هذه الأسرة. يشكّل حضور وجدي غنيم إلى تونس لحظة فارقة في العلاقات بين أفراد الأسرة، إذ يبلغ تأثّر الأب بالدعاية التي صحبت هذه الداعية حدّا جعله يرى نفسه صاحب فضل عظيم وسبق لا مثيل له إذا كان المبادر بتطبيق تعليماته، فلا يتردّد كثيرا في ذلك، وأمام سلبيّة زوجته الكبيرة، نراه يجعل من ابنته مخبرا للتجربة، وهو ما يترك في نفسها وفي جسدها جرحا لن يندمل أبدا. تمنحنا هذه الرواية من اللذّة الخالصة للحكي ما يدفعنا إلى التهام صفحاتها التهاما، إذ تجعل مطالعتها هذه الأيّام، أيّام الحجر الرتيبة، أقلّ وطأة.
لا تتردّد فاطمة بن محمود في أن تضع يدها على موضوع لا يزال من المحرّمات في تونس اليوم. فرغم استهجان النخب الحقوقية والحداثية في بلادنا لموضوع ختان البنات، لا أذكر أنّي رأيت معالجة له من زاوية إبداعية. تفاجئنا نور، رغم الجمود القاتل المحيط بها، بعالم داخلي على غاية من الثراء، ورغم محيط المحظورات المحيط بها، فإنّها تتحدّى كلّ شيء لتتلمّس طريقها كما تشاء في هذا العالم. تبدي وعيا يفوق سنّها في رسائلها إلى الفيلسوف الألماني نيتشه. أمّا عندما تمضي في استكشاف جسدها، فإنّ رهافة حسّها، أمام الحرمان الذي يبلغ حدّ العذاب المسلّط عليها منذ الطفولة، يجعلنا لا نملك إلّا أن نتعاطف معها ونشفق عليها من افتضاح أمرها، بغضّ النظر عن أيّ حكم أخلاقي على سلوكها.
هذا الغوص في نفسيّة نور يصحبه غوص أقلّ عمقا في نفسيتي كلّ من الأمّ والأب. إذ رغم ما تبديه ليلى من تمرّد خفيف في أحيان نادرة على عالم المحرّمات، فإنّ ذلك لا يدلّنا ولو قليلا على ما يمكن أن يفسّر سلبيّتها الآثمة. أمّا الأب سيف، فيبدي لنا تناقضا صارخا بين شخصيّته الظاهرة كسلفيّ متشدّد من ناحية، وبين رواسب حياته الأولى (وخاصة حبّه القديم) وشخصيّته الفايسبوكية من ناحية ثانية. غير أنّنا نلمح في آخر الرواية نزعة تبسيطيّة تردّ اضطرابه إلى حادثة عاشها في طفولته، وهو ما يسلب شخصيّته الكثير من تركيبها، بل ويمكن أن يُتّخذ كمبرّر لسلوكه المرضي.
لا تقتصر هذه النزعة التبسيطية على تركيبة الشخصيّات، بل نجد أثرا لها في البناء الزمني لأحداث الرواية نفسها، بمعنى أنّه لم يتمّ الاعتناء بالمرّة بأن يتّسق الزمن الداخلي للرواية مع الزمن الخارجي. أجلى مثال على ذلك قضيّة سنّ نور، وهي قضيّة مؤثّرة بشدّة في أحداث الرواية. من المفترض أن نور وُلدت وأبوها في السجن إثر أحداث سليمان، أي سنة 2006. غير أنّنا نقرأ أنّها بلغت التاسعة عشرة (ص. 146) قبل أن نجد إشارة إلى رجوع العلمانيين إلى الحكم فيما بعد (ص. 191) يمكن أن نفهم به أنّ السنة المقصودة هي 2014. هذا ما يعني أنّه من المفترض أن تكون نور ولدت سنة 1995، بفارق 11 سنة عن سنة ميلادها الحقيقية! وإذا شئنا تبسيط الحساب أكثر، لا نفهم كيف كانت نور في سنّ السادسة عندما جاء وجدي غنيم إلى تونس أي 2012، ثمّ نجدها في سنّ التاسعة عشرة فيما بعد، فحتّى لو اعتمدنا سنة صدور الرواية، لكان هناك فارق زمني لا يقلّ عن خمس سنوات.
نجد آثارا أخرى لعدم الاتّساق، وإن لم تكن بنفس الأهميّة، إذ هناك ما يمكن أن نردّه إلى نقص التثبّت في المعلومة. مثلا، نجد إشارة إلى خطبة للخطيب الإدريسي في جامع الفتح بالعاصمة (ص. 62)، في حين أنّه من غير المعروف أنّ المذكور قدم إلى العاصمة في تلك الفترة. وتدسّ لنا نور اسم الموسيقي باخ بين الفلاسفة الذين تأثّرت بقراءتهم (ص. 233)، ولعلّ المقصود هو فيورباخ. في أحد الهوامش، تذكر لنا "الساردة" تكتمّ السلفيين على تنظيمهم الحركي (ص. 199) غير أنّ مرجعها في ذلك هو "غوغل"، في حين أنّه يوجد من الدراسات ما اعتنى بتفصيل التنظيم الهيكلي لحركات جهادية مختلفة. ووجود هذه "الساردة" في حدّ ذاته غامض المعنى، إذ أنّها تطلّ علينا في غالب الأحيان في الهوامش دون أن تتدخّل في أحداث الرواية ذاتها إلّا بشكل عرضي، ويبدو لي أنّه كان من الأفضل أن يقع التخلّي عنها تماما، أو أن تتحوّل إلى فاعلة حقيقية تتلاعب بالشخصيات والأحداث، بدل هذا الظهور المحتشم وغير المؤثّر.
تنزل فاطمة بن محمود من عالم الشعر لتكتب هذه الرواية الملتحمة بالواقع حدّ الوجع، ولعلّ إكراهات الرواية والواقع معا كانت ممّا حتّم الاستعانة بلغة أقرب إلى المباشرة من بذخ الصور الشعريّة. ولعلّها بعملها هذا تنكأ جرحا في مخيالنا، إذ تفتح باب النظر الإبداعي في فترة قاتمة من تاريخنا القريب جدّا، وتؤكّد لنا أنّ تجاوز المحرّمات لا يزال يحتاج إلى جرأة استثنائية، حتّى في زمن نزعم فيه أنّنا ننعم بالحريّة...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق