في سبتمبر 2017، صدر ألبوم
"ببالي" لفيروز، وهو آخر ألبوماتها إلى حد الآن. تضمّن الألبوم عشر أغان
من كلمات ريما رحباني. جميع أغاني الألبوم اقتباس لأغان ذائعة الصيت، قليلا أو
كثيرا، في العالم أعاد توزيعها الموسيقي البريطاني ستيف سيدويل.
استقبل الفيروزيون طبعا هذا الألبوم
بحفاوة بالغة، فهو أوّل ألبوم لها منذ "ايه في أمل" سنة 2010، وكل ما
تغنيه جميل دون نقاش، فكيف بمنجز تقدّمه إلى العالم وهي في سنّ الثانية والثمانين
آنذاك؟ أمّا النقّاد، فكانت آراؤهم أكثر صرامة. انصبّت سهام النقد أساسا على غياب
الأصالة في موسيقى الألبوم، وعلى نقص الخيال الشعري، بعبارة الشابي، في الكلمات.
لِيمَت ريما رحباني بقسوة على "توريط" والدتها في هذا الألبوم في نهاية
مشوارها الطويل. يمكن أن نجد عرضا لمجمل الآراء حول هذا العمل إضافة إلى تحليل
موسيقي ممتاز له في مقال
جورجيت عيسى حوله في موقع "معازف".
لعلّي استمعت إلى الألبوم أكثر من
ثلاثين مرّة. لم يكن ذلك لتميّزه الكبير على المستوى الفني، ففي الحقيقة كنت
ممزّقا بين فيروزيّتي وهوسي النقدي. لا يمكنني إلا أن أسعد لسماع صوت فيروز حتى
وقد نقص إشراقه غير أني لم أستسغ كثيرا كلمات الأغاني التي لم يكن فيها لا رشاقة
التعبير وقوّة الحلم التين ميّزتا كلمات الأخوين رحباني، ولا واقعية زياد رحباني
الساخرة والمريرة أحيانا والمحببة في كل وقت... زياد الذي فُقدت في هذا الألبوم
لمساته العبقرية التي ميزت ألحانه لفيروز منذ عقود.
لكنّ كل ما يمكن أن يقال نقديا
ينبغي أن يتنحى جانبا. هذا الألبوم لم يوضع لينال الإعجاب. كان ما دفعني إلى
الاستماع إليه بإفراط أنّه خاطب فيّ شيئا لم أسمعه قطّ في أغاني فيروز السابقة.
لأوّل مرّة لم أستمع إلى فيروز الفنّانة، وإنما إلى نهاد حدّاد الإنسانة. لم تكن
فقط تحكي قصّتها، وإنما كانت تناجينا، وتهمس في آذاننا برحيق رحلتها الطويلة معنا،
نحن الذين أحببناها وتتبعناها على امتداد مسيرتها.
قد يصعب قليلا تتبّع ذلك إذا
اتّبعنا ترتيب الأغاني كما وردت في الألبوم. هو ترتيب مخاتل يضيع علينا أحيانا
الخيط الرابط بين الأغنيات، وهو يحتاج بذلك إلى شيء من إعادة التنظيم. أخال أنّ
البداية يجب أن تكون مع "حكايات كتير". تبوح لنا فيروز:
صحيح اني ما حكيت
كل اللى قلته كان
بالغنية
الكلام لشو
الكلام
هايدي حياتي
ذلك ما نعرفه عن فيروز: كثيرة
الغناء على المسارح، قليلة الكلام في وسائل الإعلام. تختار الآن أن تخاطبنا
مباشرة، بالوسيلة الوحيدة التي تعرفها: بالأغنية. القافية التي تتكرر طوال الأغنية
هي لفظ: حياتي. تحكي لنا هنا عن جولاتها العديدة في مسارح العالم... عن الناس
الذين رحلوا... عن الحياة المنذورة للفن... عن الحياة التي لم تستطع أن
تعيشها...عمّا فُرض عليها... ثمة نبرة حزينة في الأغنية، لكنها تصرفها بتأكيد
ختامي أنها آمنت ولم تستسلم وعاشت حياتها.
أمّا في "بغير دني"
فتشاركنا فيروز لحظة فريدة، وإن تكررت مئات المرات. هي لحظة وقوفها على المسرح.
رغم مسيرتها الطويلة، لم يزايلها أبدا ذلك الشعور بالرهبة وهي تقف أمام الأنظار
التي تحدّق فيها. أحاسيس متناقضة تنتابها: الخوف، الارتباك، الوحدة ولكن كذلك
السعادة والتحرر. لعلّها لا تحس بمثل ذلك الانطلاق إلا في تلك اللحظة المميزة، حيث
تحمل صوتها ليكون جسرها إلى العالم، أو إلى ما فوق العالم:
بغني وبصير بغير
دني ... بغير مكان وغير زمان
وحيدة... وسعيدة
...
وإذا انتقلنا إلى أغنية
"ببالي"، سمعنا فيروز تقلّب ذكرياتها. لا تسمّي لنا هذه الذكريات، ولا
تعطينا تفاصيل تذكر حولها. هي ذكريات حلوة ومرّة في نفس الآن، وتتناقض مشاعرها
تجاهها: فهي تعلن أنها لن تتردّد في عيشها مجددا لو أتيح لها ذلك، ثم تخبرنا أنها
تختار نسيان كل شيء ومحوه، ما عدا الضحكات. تأخذ الذكريات طابعا أكثر خصوصية مع
"أنا وياك"، حيث تحدّثنا عن حبيبها الذي يشبه أغنية حزينة منسيّة. تثور
ضد النسيان وتصرخ أنها ستذكر دائما رفقة الصبا والمشوار الذي ساراه معا، ونفترض أن
المعنيّ لا يمكن أن يكون سوى عاصي رحباني. في جرأة غير معهودة، تصرّح فيروز
"قبّلني كثيرا" غير أنها حتى في جرأتها بقيت متوارية خلف حجاب اللغة هذه
المرّة، إذ حافظت على العبارة في لغتها الأصلية دون ترجمة (bésame mucho).
في "ما تزعل مني"،
تحدّثنا فيروز عن حبيب آخر لطالما تغنّت به، وهو الوطن. العلاقة أكثر تعقيدا بكثير
من كلاسيكيات من قبيل "بحبك يا لبنان". لا شكّ أنّ هناك حبّا عميقا، لكن
هناك كذلك عتبا كبيرا ومرارة ناضحة من وطن منحته كل شيء لكنه يقترف البشاعة بيديه،
يُشعرها بالغربة وهي فيه ويلقي بأبنائها إلى العالم الواسع ليبحثوا عن وطن جديد.
تنتهي الكلمات بما يشبه الاعتذار على هذه الصراحة... اعتذار جدير بلحظة وداع.
تنتقل المرارة إلى أغنية
"لمين". وإذا كان من الممكن أن يُنظر إلى الأغنية باعتبارها مناجاة بين
عاشقين، فإني أخال أنّ فيها نظرة قاتمة، ترصد العبثية في كل شيء. النجم يسهر وشجر
الحور يبكي والأرض تدور لغير غاية على الإطلاق...
لا تمنع هذه السوداويّة فيروز من أن
تصارحنا بشيء من أحلامها... حسبها "بيت صغير في كندا" تعيش فيه هانئة
مطمئنة، وتتحوّل كندا هنا إلى استعارة عن مكان قصيّ لا يصله شيء من صخب العالم.
غير أنّ لها كذلك أحلاما أكبر... السلام لكل العالم، وهو ما تعبّر عنه في
"يمكن" التي تستعيد فيها جميع المثاليات التي غنّت لها طوال مسيرتها مع
اعتراف بطوباويتها، وإيمان متجدد بحلم كبير كبر الإنسانية.
تُعزف موسيقى الوداع مع "رح
نرجع نتلاقى"... هو وداع يتضمّن وعدا غامضا باللقاء في يوم ما. تكمن المفارقة
في أن هذه الأغنية هي الأولى في ترتيب الألبوم، لكن ألم نقل أنّ هذا الترتيب
مخاتل؟
ناجتنا فيروز في هذا الألبوم لتفتح
لنا خبايا نفسها وتهمس: وداعا. اختارت أن تحدّثنا، كما تعودت دائما، بالموسيقى. لم
تبحث عن تعبيرات جديدة لتصل إلينا، وإنما اختارت من الأغاني العالمية ما رأت أنه
أكثر بوحا عن حالتها، ولعلّها أغان هي تفضّلها شخصيا. كان التوزيع الموسيقي يبتعد
في أغلبه عن التعقيد، وإنما يستخلص جوهر الأغاني الأصلية دون تنميق. أما الكلمات،
فقد اتجهت إلى التعبير بطريقة مباشرة تخلو من كل مواربة، وقد وقع التصرّف في تعريب
بعض الكلمات لتناسب الحالة المزاجية التي ودت فيروز التعبير عنها، وما أحسب إلا
أنها تدخلت بنفسها أحيانا في وضع الكلمات. لذلك أرى أن هذا الألبوم بالذات لا يعبأ
بالنقد، إذ لم يُقصد به سوى أن يكون كلمات الوداع التي تنطق بها جارة القمر...
وداع لم تستطع أن تبثّه مباشرة، وهي التي تعوّدت طوال مسيرتها ألّا تتكلّم وإنّما
يتكلّمون عنها وباسمها، فعادت لتبلغنا إيّاه غناء. ولعلّي لذلك تردّدت في الكتابة
عنه أكثر من عامين، رفضا للاعتراف بحتمية الوداع، وتوقا لجديد آخر، مهما كان، ينزل
على أسماعنا بردا وسلاما. ومن يدري؟ ألم تنذرنا بالوداع عندما غنّت "أغنية
الوداع" منذ حوالي ثلاثين عاما ثم لم تنقطع عن الغناء؟ قد يكون ذلك... وقد
أكون أغالط نفسي، بينما لسان حالها يردّد، كما فعلت في حفل بيت الدين سنة 2000: هايدي
مش غنية، هايدي بس تحية.... وبس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق