"نحنا ناس من ورق... ويمكن اللي كتب كتب إنو ما نتلاقى... ويمكن من بعيد أحلى وأصفى... هيك بيضلّ في مسافة ترقص فيها الشمس ويلمع جوّاتا الندي والدمع“.
هكذا تتكلّم ماريا (فيروز) في آخر حواراتها، وربّما أجملها، مع شكّور (حنّا معلوف) في مسرحية "ناس من ورق" الّتي عُرضت سنة 1972 بمسرح البيكاديلي ببيروت والّتي أخرجها صبري الشريف. لعلّ هذه الكلمات تُلخّص جانبا من العلاقة المعقّدة للفنّان بفنّه والتي تجعله، دون أن يكون ذلك قصده، يتّخذ مسافة من الذين يحيطون به.
تصل فرقة ماريا إلى البلدة بقيادة مديرها (نصري شمس الدين) لتقدّم عددا من العروض فيها. يصطدمون برجال ظاهر البندر وعلى رأسهم ديب (وليم حسواني) وهم في ذروة حملة ظاهر الانتخابية. ويحاول ديب بشتّى الوسائل تعطيل الفرقة لكيلا تشوّش على المهرجان الانتخابي.
لا نسمع صوت ظاهر البندر إلّا لثوان معدودة طوال وقت المسرحيّة، ومع ذلك نجد في مختلف الحوارات ما يمكنّنا من بناء صورة عنه. هو شخص له من الوجاهة ما يجعل الكثيرين يتمسحّون على أعتابه للالتحاق بقائمته الانتخابية، رغم أنّه قليل الحظ من التعليم، وإن كان ديب يزعم أنّه أهم من المتعلّمين لأنّه لم يضع وقته في المدارس بل بدأ في المظاهرات منذ صغره. تنعكس قلّة التحصيل الدراسي على خطابته، فنسمعه يلحن بشكل مضحك في افتتاح مهرجانه ونسمع عن عجزه صياغة خطاب متماسك فيوكل المهمّة إلى مجموعة من المعلّمين. يستغلّ شعبيته لطلب مبالغ مالية من الراغبين في الترشّح معه، ونعرف أنّه لا يتردّد في استغلال الفرص لتحويل المال العام إلى جيبه، كما أنّه لا يمتنع عن إرسال أتباعه لتعنيف خصومه الانتخابيين. يلخّص ظاهر صورة السياسي الفاسد، وهي صورة يعجّ بها المسرح الرحباني، فنجده مثلا في المفوّض في مسرحية "لولو" وفي رئيس البلدية في مسرحية "ميس الريم".
في مقابل هذا التنميط، تعترضنا صورة نمطية أخرى تقابلها، وهي صورة الفنّان الملتزم كما تمثّله ماريا. لا يحمل الالتزام هنا معنى سياسيا، إذ لا نجد فيما تؤدّيه ماريا وفرقتها أيّ إدانة لمظاهر الفساد المستشرية، وإنّما نعني به إخلاص الفنّان لفنّه ولفنّه وحده. حين يعرض ديب مبلغا جزيلا على ماريا لتغنّي في مهرجان ظاهر، يشتدّ غضبها وتصيح في وجهه أنّها لن تغنّي لأحد ولو بمليون ليرة. يذكّرنا ذلك بمواقف مشهورة للأخوين رحباني وفيروز رفضوا فيها الغناء في مناسبات خاصة، حتّى أمام رؤساء دول، ومنهم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.
قد يبدو أنّ هذا التعفّف لا يشمل كلّ أفراد الفرقة. يحاول مدير الفرقة الانضمام إلى قائمة ظاهر الانتخابية، ولا يتردّد من يلعب دور الحرامي (ايلي شويري) في السطو على ثياب الفرقة بتحريض من ديب. غير أنّ ذلك لا يعني ميلا فطريّا للرضوخ إلى المغريات. كلّ ما في الأمر أنّ الممثّلين يتلبّسون بأدوارهم حتّى يضحون غير مميّزين بين التمثيل والواقع، وهو ما يلاحظه ديب ويسعى إلى استغلاله. هم فنّانون ملتزمون بأدوارهم إلى أقصى حدّ. يبقى الحرامي يلعب دوره حتّى خارج المسرح، ويسعى مدير الفرقة لإثبات زعامته حتى خارج الفرقة. نلمح ذلك عند ممثّلين آخرين، كنسّوم (هدى حدّاد) التي تبقى تتلصّص خفية خارج دورها، بل ونرى ذلك حتّى لدى غير الممثّلين، فنجد الحارس عنتر يحاول، على جبنه البادي، أن يكون نظيرا لسميّه عنترة بن شدّاد. كأنّنا بجميع أفراد الفرقة يمارسون ضربا من التمثيل المنهجي (Method acting) يجعلهم يبقون في أدوارهم حتّى بعد نزولهم من على خشبة المسرح. يبدو هذا الخلط بين الواقع والخيال بشكل طريف عندما يستحضر مدير الفرقة في "عدّولي يا جماعة" كلّا من "جسر القمر" و"جبال الصوان" و"الشخص" وهي كلّها مسرحيات لعب فيها نصري شمس الدين، مدير الفرقة هنا، دورا بارزا.
تعبّر ماريا عن مفهوم هذا الالتزام بشكل واضح في حواريها مع شكّور. تحمل هذه العلاقة عدّة مكوّنات تعوّدنا عليها في أغاني فيروز: حبّ يبدأ منذ الصبا لا يتمّ التصريح به بوضوح، ويظلّ متّقدا لا ينطفئ رغم البعد ورغم مضيّ السنوات. رغم أنّه من الواضح أنّ ماريا تبادل شكوّر عاطفته، إلّا أنّها ترفض أن يظلّا معا. رسالتها تمنعها من ذلك. لا هي تستطيع الاستقرار، ولا شكّور يقدر على الالتحاق بالفرقة. تختار ماريا التضحية بعاطفتها لتواصل حمل رسالتها. قدرها أن تكون فنّانة، وهذا القدر يمنعها من أن تحيد عن طريقها. تعكس هذه الرؤية صورة الفتاة المنذورة، كما بدأت في "جسر القمر" وتواصلت في "جبال الصوان". لا يمكنها إلّا أن تفي به، فتظلّ تنتمي إلى "ناس من ورق"، ناس لا يمكنهم إلّا أن يكونوا وعاء لما يُصبّ فيهم، أمّا شخصياتهم وحيواتهم الواقعية، فلا مصير لها سوى الاندثار. الفنّان عند الرحابنة هو أعظم ألوان التضحيات: أن تمحو نفسك ليعيش فنّك.
من الطريف أنّ أكثر الأغاني تعبيرا عن روح المسرحية، وهي "قصقص ورق" لا تؤدّيها فيروز. وفي الحقيقة، لا نجد لأيّ أغنية تؤدّيها فيروز علاقة مباشرة بأحداث المسرحية، على كبر المساحة الزمنية المخصصة لأغانيها. الخيط الرفيع جدّا الذي يربطها بالمسرحية هو فقط كونها "ماريا"، المطربة الرئيسية لفرقة ماريا. في "ناس من ورق"، نرى مفهوم الذريعة في أوضح تجلّياته في المسرح الرحباني. ونعني بالذريعة أنّ الحبكة وما يحيط بها من أحداث وما نُسج حولها من شخصيات ليست سوى مسوّغ لمنح المجال لفيروز لكي تغنّي، بغضّ النظر عن الرابط بين ما تغنّيه وبين الحبكة. وليس مفهوم الذريعة ببدعة جاء بها الرحابنة، فعدد كبير من الأفلام الموسيقية، لاسيّما في عالمنا العربي، لم يُنتج إلّا للترويج لأغاني بطله أو بطلته. في "ناس من ورق"، يستغلّ الرحابنة الذريعة بشكل مبهر، فتتحوّل إلى مدخل لاستعراض كامل للمقدرة الفنيّة. قلّما نجد في عمل ما هذا التنوّع الكبير الذي نراه في أغاني فيروز في هذه المسرحية: نسمعها في مقطع من الطرب القديم في "رجعت ليالي زمان"، وفي دبكة راقصة في "غيّروا"، وننصت إليها في أغان عاطفية حزينة (يمكن القول أنّها من الكلاسيكيات الرحبانية) في "دقيت" و"شو بيبقى من الرواية"، وتنقل لنا شيئا من كلاسيكيات الموسيقى الغربية في "يا أنا يا انا"، ثمّ تنشدنا قصيدة لجبران هي أقرب إلى الترتيلة في "المحبّة" وهي إحدى أطول أغانيها، وتنقلنا إلى جوّ البحّارة والموانئ في "هيلا يا واسع"، وتُسمعنا شيئا من اللون البدوي في "دقوا المهابيج"، ولا تنسى المرور على الفلكلور اللبناني في "كانت على هاك العريشة". هو طيف واسع للغاية من الألوان الموسيقية يعرض أمامنا، يجد فيه صاحب كلّ حاجة حاجته. يُمكن القول أنّه علاوة على المهرجانين "المُعلنين" في المسرحية ذاتها: مهرجان فرقة ماريا ومهرجان ظاهر الخطابي، يوجد مهرجان ثالث "ضمني" يوفّره لنا صوت فيروز وهو يعبر بنا من ذروة جمالية إلى أخرى.
يتيح الدور المحدود نسبيّا لفيروز المجال للشخصيّات "الثانوية" لتلعب دورا مهمّا في سيرورة المسرحية. وفي الحقيقة، هي ليست ثانوية إلّا باعتبار قصر الزمان المخصّص لها، ولكنّها المحرّك الحقيقي في صياغة الأحداث. يضحي ديب المرجان محور المسرحية بمحاولاته المتكرّرة التشويش على الفرقة، ويوظّف لذلك عددا من الشخصيات. إضافة إلى عبّود ومرعي، يأتي أبو أسعد فيّاض (جوزف ناصيف) ليتطفّل على مهرجان الفرقة، ويؤدّي ما يمكن القول أنّه أكثر الأغاني تصريحا بمضمونه السياسي "نحنا يا شباب". يشكّل أبو أسعد فيّاض "الفنّان" النقيض لمثاليات فرقة ماريا، فهو مجرم مرهوب الجانب يبيع خدماته للساسة، حتى أنّه يحيد بالأغنية عن موّالها الغزلي ليحوّلها إلى دعاية مباشرة. في جانب فرقة ماريا، يبرز عدد من الشخصيات: مدير الفرقة، الحرامي، المهرّجة (جورجيت صايغ)، نفنافة (سهام شمّاس)... التي يلعب كلّ منها دورا في التقدّم بالأحداث. لكن يلفت انتباهنا بالخصوص صعود هدى حدّاد في دور نسّوم. علاوة على دورها في أحداث المسرحية، تحتلّ أغانيها (قولي يا نسوم، فلكلور أرمني، قصقص ورق) مساحة زمنية مهمة تكاد توازي تلك الممنوحة لنصري شمس الدين، وستؤكّد المسرحيات القادمة أنّ هدى أصبحت جزءا لا غنى عنه في عالم الرحابنة المسرحي.
سيواصل الرحابنة في مختلف مسرحياتهم استعمال مفهوم الذريعة، لكن لن يكون ذلك أبدا في مستوى ما قاموا به في "ناس من ورق". في المسرحيات القادمة، تضحي الأغاني أكثر انضباطا لحبكة المسرحية، وإن لم يكن ذلك مطلقا، لتبقى هذه المسرحية فريدة في بنيتها بين أعمالهم، شديدة الثراء من الناحية الموسيقية بشكل جعل أغانيها من المعالم البارزة لرحلة فيروز مع الرحابنة. بل أنّ هذا الثراء يتجاوز الأغاني ليمسّ الحوارات، فنجد مثلا إعادة شبه كليّة لحوار ديب مع أبي أسعد والمهرّجة في حفل أولمبيا باريس سنة 1979، مع بعض التكييف الذي اقتضاه الظرف السياسي.
--
حالة حصار
العدد الثاني- 13 أفريل 2020
http://tiny.cc/1qvymz
حالة حصار
العدد الثاني- 13 أفريل 2020
http://tiny.cc/1qvymz
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق