قامت الدولة التونسية بمجهود ذي بال للحد من انتشار وباء الكورونا، فرغم أنّ عدد المصابين محدود نسبيا مقارنة ببقية دول العالم، فقد ذهبت الدولة إلى أقصى الإجراءات الممكنة، وذلك بإعلان الحجر الصحي الكامل منذ أكثر من أسبوع. ويبدو أنّ هذا المجهود يلاقي قبولا حسنا لدى فئات واسعة من الشعب، إلى حدّ جعلنا لا نسمع الكثير من التعاليق في هذه الفترة حول الانتماء السياسي لوزير الصحة مثلا. غير أنّه لا يبدو أنّ الأزمة ستنقضي قريبا، لا في تونس ولا في باقي العالم، وهو ما ستكون له انعكاسات كبيرة تطرح على الدولة تحديات أكثر عمقا على المستوى الاقتصادي وعلى المستوى الاجتماعي
على المستوى الاقتصادي، أعلن رئيس الحكومة في خطابه يوم 21 مارس عن اجراءات استثنائية تبلغ تكلفتها الجملية 2.5 مليار دينار. هو مبلغ ضخم، سيُنتزع انتزاعا من ميزانية متهالكة. نفترض أنّه سيقع استهلاك كامل ال767 مليون دينار المخصصة للنفقات الطارئة في ميزانية الدولة لسنة 2020. أما باقي المبلغ، فسينتزع على الأرجح من نفقات التنمية التي تبلغ حوالي 6.9 مليار دينار، وهو ما سيؤثر سلبا على النمو الاقتصادي للبلاد، لا سيما وأن بعض الخبراء يتوقعون أن تأثير الأزمة لن يقتصر على خسارة نصف نقطة من نسبة النمو كما أعلن رئيس الحكومة، بل أنه من المرجّح أن يكون النمو سلبيا في آخر 2020، إذ لا يمكن أن نتوقع مثلا توافدا كبيرا للسياح هذا الصيف. وإذا طالت الأزمة لفترة أطول، فستضطر الدولة لتخصيص مبالغ إضافية لمواجهتها. فإذا استمرّت لعدّة أشهر، قد تستهلك الدولة نفقات التنمية بالكامل، وتضطرّ إلى البحث عن حلول أخرى. قد يوفّر انخفاض سعر البترول قدرا من ميزانية الدعم البالغة 1.88 مليار دينار، لكن في المقابل، يمكن أن نتوقع انخفاضا في المداخيل الجبائية بما أن عددا من المؤسسات الاقتصادية، خصوصا الصغرى والمتوسطة، تشهد حالة عطالة مرشحة لأن تطول. ماذا سيكون ردٌ فعل الدولة لتوفير ما يلزم من النفقات؟ هل ستتّخذ إجراء لزيادة الضريبة على مداخيل المؤسسات الاقتصادية الكبرى أو حتى أكثر من ذلك فتؤسس لضريبة على الثروة؟ يستوجب ذلك دولة لها من القوة ما يمكّنها من فرض ذلك على لوبيات نافذة نرى منذ الآن مدى قدرتها على استغلال أجهزة الإعلام لتوجيه الرأي العام. الحل البديل سيكون، كالعادة، في فرض اقتطاع إجباري استثنائي على الأجراء، وهو ما قد يولّد ردود فعل غاضبة خاصة إذا كان نتيجة عجز الدولة عن فرض الحل السابق، إذ سيكون من الواضح منافاة هذا الإجراء لأبسط قواعد الإنصاف وتأكيدا لهيمنة رؤوس الأموال الكبرى على القرار. أما آخر الحلول، وربما أبغضها، فسيكون في اللجوء إلى مزيد الاقتراض، وهو ما سيعمّق من الدين الخارجي الذي من المتوقع أن يبلغ 74 في المائة من الناتج الداخلي الخام آخر السنة.
أمّا على المستوى الاجتماعي، فلئن كانت الإجراءات التي اتخذتها الدولة تستبق تطوّر الوباء، فمن الممكن جدا أن تكون لها نتائج عكسية إذا طالت المدة. فالحجر الصحي الكامل حل قصووي، يصعب من بعده المرور إلى درجة أعلى إذا اتّضح أن مقاومة الوباء ستتطلّب المزيد من الوقت. لنتصور أنّ الأزمة طالت لأكثر من شهر آخر، كيف سيتحمل المواطن كلفة ذلك؟ كيف نطلب مثلا من صاحب مقهى، لا دخل له غير مقهاه الذي يكتريه مقابل مبلغ شهري معتبر، أن يُبقي مصدر دخله الوحيد مغلقا لشهور؟ كيف نطلب من عامل يومي أن يتوقف عن طلب قوته لمدّة طويلة؟ لن تفي المساعدات الاجتماعية بالكثير، وإذا كان المسؤولون يشتكون منذ الآن من عدم التزام بعض المواطنين بالحجر الصحي، فإننا سنرى بعد فترة قد لا تطول كثيرا أنّ حالات الخرق ستتعدّد، وذلك أمر طبيعي، فالبحث عن لقمة العيش سيتغلّب على الخوف من الكورونا. ستكون هناك حالة من التمرّد على الإجراءات التي تتخذها الدولة، وستكون الدولة مضطرة إما إلى التخفيف منها مخاطرة بمزيد تفشي الوباء أو إلى مواجهة هذه الحالة بطريقة قمعية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى مزيد التمرّد. نرى بوادر لذلك منذ الآن في الطريقة التي يدار بها الحجر الصحي العام. فالحدّ من حرية التنقّل، وهي حريّة دستورية، موضوع الآن رهين مزاج عون أمن وسلطته التقديرية المطلقة في شأن مواطن خرج لقضاء شأن يعتبره ضروريا، ولم يره العون كذلك، وهذا في غياب ضوابط واضحة ودقيقة وغير متروكة للمزاج فيما يخص الحاجات الضرورية المسموح الخروج لأجلها.
تجد حكومة الفخفاخ، على حداثة عهدها بالحكم، في موقف لا تحسد عليه لا سيما وهي وريثة عشر سنوات من ضعف الدولة. غير أنّ لها كذلك امتيازا لا يستهان به، فمثل هذه المواقف تُثبت أنه لا يمكن تجاوز إرادة الدولة في أيّ شيء، فكل تدبير لمواجهة الأزمة لا يمكن اتخاذه بعيدا عن الدولة، في معناها المركزي الضيق. ومهما يكن من أمر، فهذه الفترة ستكون حاسمة في علاقة الدولة المجتمع، فإما أن تثبت دورها وتقوّي مكانتها عنده، أو تتضعضع وتضمحلّ شيئا فشيئا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق