كان من أمر حبيب بعد
عودته من الجبل أن رجع إلى عزلته كما كان شأنه أغلب أمره. فكان يقضي أغلب وقته في
حجرته يخطّ على الورق ما أوحت إليه به نفسه، لاهيا عابثا، ثمٌ لا يلبث أن يمزّقه
غير عابئ بأمره. وقد بلغنا أنه كتب في زمانه ذلك شعرا كثيرا كان ينحو فيه منحى أبي
تمام وأبي عبادة، غير أنّه لم يعن بحفظه فذهب منه الكثير ولم يبق منه إلا ما رواه
صاحبه عبد العزيز بن سهل، وكان ألصق الناس به، وهو أشهر من روى عنه ديوانه فيما لم
يبلغنا كتابة.
لم يكن لحبيب نصيب في
صنوف اللهو، غير أنّه كان له يوم في الأسبوع يغشى فيه مجالس القيان رفقة صاحبه
ذاك، فيسمع منهنّ ما شاء الله ويتزود من ذلك إلى أسبوعه القادم. وكان أمره في تلك
المجالس عجبا فلم يكن يتبذّل تبذّل الفتيان في سنّه، ولا يذوق من النبيذ قطرة. ولم
يكن إذا أحسنت القيان الغناء ممّن يميل برأسه أو يحرّك يده، بل كان يظلّ مطرقا لا
يبدي حراكا، غير أنه كان إذا رفع رأسه عُرف فيه الصفاء. وكان لا يزيد في مجلسه ذاك
أن يطلب من القيان أن يسمعنه صوتا لحبابة الغسانية. وكانت حبابة فريدة زمانها في
الموسيقى، لا تغنّي إلا من شعرها ولحنها، وظلت على ذلك إلى أن ماتت. وكانت تذهب في
الغناء غير مذهب قريناتها فلم تكن تطيل ولا تعيد ولا تثقل، وإنما تبثّ من نفسها ما
يشبه الصلاة في صوت شجيّ خافت تتلقفه الأسماع فتخشع له. ولم يكن يرتاد مجلسها إلا
قلّة من الخاصة. وقد أدركها حبيب صبيّا مع عمّه المغيرة، فكلف بها. وكان يقول
لصاحبه: يا عبد العزيز، شهدت من حبابة مجلسا ما أودّ أنّ لي به حمر النعم، وما
كنت أبالي لو كانت الدنيا فنيت بعده. والله أنها كانت تغني فتذهل عمّا حولك ولا
يتردّد بسمعك سوى خفق الأجنحة وهي تطير بك إلى أعلى عليين. وقد كان القوم من
هيبتها يغضّون الطرف ما طال مجلسها، غير أني استرقت النظر إليها وهي تغنّي، فيا
ويح عين حبيب ما رأت! والله يا عبد العزيز إني رأيت السماء بأسرها في عينيها،
بكواكبها ونجومها وشمسها وقمرها. لكأني في تلك اللحظة قد مرّ عليّ عمري كله ثمّ
بُعثت حيّا.
وولع حبيب بحبابة
مشهور، ولا أخال أحدا من أهل زماننا يجهله. وكان يقول فيها الشعر، وفي ديوانه
قصيدة مطلعها:
يا
خليليّ صباحا فاسقياني... كأس شدو من شجيّات اللحان
وهي قصيدة عن مجلسه
الذي ذكرناه، وهي من أوّل شعره. وأخبرنا الثقة أنه لمّا بلغه خبر وفاتها، وجم
ساعة، ثم رفع رأسه وقال: كذبتم، لا تموت من احتوت عيناها السماء وعبر صوتها حدّ
الفناء. وظلّ على إنكاره، فلم يشهد جنازتها. غير أنّه زار قبرها بعد أربعين يوما
فوقف أمامه لا ينبس عن شفة، ثم أراق على قبرها قنينة من ماء الورد، ولم يُعرف
مذهبه في ذلك، ولم يزرها بعد ذلك قطّ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق