بالإضافة إلى علويّته القانونية
الماديّة والإجرائية، للدستور علويّة (أو يجب أن تكون له)، يمكن أن
نسمّيها “علويّة نفسيّة” أو “هيبة الدستور” تتأتّى أساسا من الأهميّة
التاريخية للحظة وضعه (وهي لحظة يفترض أن تكون فارقة قاطعة مع ما قبلها
ومؤسسة لما يليها) ومن مهابة واضعيه في نفوس المواطنين على امتداد العصور.
في الولايات المتحدة مثلا،
ودستورها المكتوب هو الأطول عمرا بين دساتير العالم، يحظى واضعو دستور 1787
بهالة تصل إلى حدّ التقديس عند مواطني هذا البلد. فهم يسمّون “الآباء
المؤسسين” وتشيّد لهم التماثيل ويدرس فكرهم السياسي والفلسفي العميق في
المدارس والمعاهد والجامعات. وقد وضع هذا الدستور سنوات بعد استقلال
الولايات المتّحدة عن بريطانيا في لحظة أصبح فيها الوعي راسخا بضرورة أن
تكون هناك سلطة اتّحادية تسند لها الولايات الثلاث عشرة آنذاك صلاحيات
فعليّة.
وأغلب دساتير العالم وضعت في
مثل هذه اللحظة الفارقة التالية لأزمة عميقة (حركة تحرّر وطني، ثورة،
انقلاب،…) تكون كتابة دستور يؤسّس لمشروع سياسي (ومجتمعي) جديد أحد مفاتيح
حلّها.
في معظم الأحوال، يكون
“الرّجال” هم من خلقوا “اللحظة”، وتكون لهم بالتالي المشروعيّة الأخلاقية
للبناء عليها. في تونس، توفّرت لنا “اللحظة”، ولم يتوفّر “الرّجال”.
فـ”الرّجال” (والنساء) وجدوا اللحظة ماثلة أمامهم، فرصة ذهبية لم يكونوا
يحلمون بها وسمّيت بالثورة التلقائية أو العفوية أو الثورة من دون زعيم
ولعلّهم كانوا أوّل من ذهلوا لحدوثها قبل أن يستوعبوها ويوظّفوها. فوجدنا
أنفسنا بعد أشهر من اللحظة ننصّبهم “آباء” لنا وننتخبهم في مجلس ينظّر رجال
القانون لكونه سلطة تأسيسية أصليّة أولى وعليا وسيّدة، أي شبه إله قانوني.
غير أنّنا سرعان ما اغتلنا
“آباءنا” (بالمعنى الفرويدي) أيّاما معدودة بعد تنصيبهم، ولعلّ الأصحّ أنّ
مشاراتهم ومماراتهم وقلّة كفاءتهم وصفقاتهم وأطماعهم المعلنة والحماقات
الّتي يتفوّهون بها هي الّتي اغتالتهم وجعلت الحديث عنهم لا يكاد يكون في
بعض المنابر إلا من باب التندّر والسخريّة. وبعد أن تتمّ المصادقة على
الدستور، لا نلبث أن نجد أنفسنا مطالبين بتطبيق أحكامه الّتي قد لا تعجب
البعض فيقول “ومن وضع هذه الأحكام حتّى تكون ملزمة لي؟” ولا يلبث أن يتذكّر
كلّ المهازل الّتي أحاطت بعمل المجلس الوطني التأسيسي، فلا يثير ذكره غير
القهقهة.
للولايات المتّحدة من الآباء
المؤسسين جورج واشنطن وجون آدامز وتوماس جيفرسون وبنيامين فرانكلين وغيرهم
من العمالقة. من لنا نحن، لا ممّن يستحقّون تشييد التماثيل فالأكيد أنّنا
لم نصل إلى هذه الدرجة، بل حتّى ممّن يستحّق قدرا من التوقير والاحترام؟
قد ضاعت مع دستور 1959 فرصة
تاريخيّة، فهو دستور جاء في لحظة فارقة (استقلال البلاد) وكان واضعوه يحظون
باحترام كبير لدى عموم الشعب. لكنّ هيبة دستور 1959 تمزّقت أشلاء قبل أن
يعلّق العمل به بوقت طويل…منذ أن احتكره المرحوم الحبيب بورقيبة لنفسه
منّصبا ذاته ‘أبا الآباء” ومبيحا أن يقع انتهاكه بسلسلة من التعديلات الّتي
سلبته جوهره، وعلى رأسها الرئاسة مدى الحياة.
سيكون لنا دستور، عاجلا أو
آجلا، ولكن أن ننتظر منه الدوام، فذلك أقرب إلى الأوهام، فواضعوه جعلونا
كالأيتام في مأدبة اللئام. وسيكون من المحال، أو من الأحلام بعيدة المنال،
أن ننتظر أن تكون لهذا الدستور هيبة، فالأرجح أن يكون دستور الخيبة.
الرابط على تونس الفتاة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق