
يروي الأديب الراحل طه حسين في "أيّامه" أنّه لمّا كان يدرس في فرنسا طًلب منه و من زملائه كتابة موضوع عن الحياة الحزبيّة في فرنسا بعد سقوط نابليون، فحاول إعداده كما ينبغي و قدّمه إلى الأستاذ. "و جاء يوم النقد فاستعرض الأستاذ ما قدّم إليه من الواجبات ناقدا ساخرا مندّدا متندّرا موبّخا بعض الطلاب أحيانا حتّى إذا ذكر اسم الفتى لم يزد على أن ألقى إليه واجبه معقّبا بهذه الجملة المرّة الّتي لم ينسها قطّ : "سطحيّ لا يستحقّ النقد". و كان لهذه الكلمة وقع لاذع في نفس الفتى أمضّه بقيّة يومه" و كيف لا و عمله لم يصل حتّى إلى مستوى أعمال باقي زملائه فيستحقّ السخريّة و التنديد و التندّر و التوبيخ... لعلّ الأستاذ كان قاسيا مع صاحبنا، و لكن بغضّ النظر عن هذه الحادثة، فإنّ الناقد قد يقف حائرا أمام غثاثة بعض الأعمال و تفاهتها و عدم جدّيتها و قد لا يجد عبارة تصلح لتقييمها غير تلك الّتي استعملها أستاذ صاحبنا: "سطحيّ لا يستحقّ النقد"... هذه العبارة قفزت إلى ذهني مباشرة بعد أن شاهدت "الشريط الحدث" "الّذي حطّم الأرقام القياسيّة في عدد المشاهدين"، شريط "سينيشيتا" أو "7 شارع الحبيب بورقيبة". و لكنّي مع ذلك سأكون أكرم من أستاذ عميد الأدب العربي و أمنح هذا الشريط شرفا لا يستحقّه، شرف النقد...
و لكي لا أتّهم بالسلبيّة و التجنّي على الإنتاج التونسي و الاستخفاف بالقدرات المحليّة، يجب أن أعترف بأنّ في الشريط نقطتين إيجابيّتين: أولاهما أنّه لم يحصل على دعم عمومي، و بذلك لم تذهب أموال الشعب هدرا و هو ما يشكر عليه مسؤولو وزارة الثقافة، إذ أنّهم كانوا ينبغي أن يحاسبوا على سوء التصرّف لو كانوا وافقوا على منح الدّعم لمثل هذا الشريط...أمّا ثانيتهما، فهي أنّ الدّعاية لهذا الشريط كانت ناجحة للغاية و تمثّل قفزة نوعيّة للأفلام التونسيّة في مجال التسويق، إذ رغم سطحيّة الفيلم، نجح منتجوه في دغدغة فضول عدد كبير من المواطنين الأبرياء المتعطّشين لمشاهدة انجاز تونسي راق و ذلك بالقضايا الّتي زُعم أنّه يطرحها، و قد كنت ممّن وقعوا في فخّ هذه الدّعاية، فرغم أنّي قرأت مقالا في صحيفة الصباح الأسبوع الماضي (أظنّه لمحسن الزغلامي) يصفه بأنّه شريط لا يقدّم قضايا تهمّ بحقّ المواطن التونسي، فإنّي لمّا قرأت قصّة الشريط كما أوردتها بعض الصحف و المواقع (مجموعة من الشبّان ترفض الرقابة شريطهم فيقومون بالسطو على بنك لتمويله) اعتبرت أنّ مجرّد طرح مثل هذه المشاكل يعتبر جرأة كبيرة و اتّهمت ظلما كاتب المقال بالتعسّف في نقده على الشريط قبل أن أكتشف أنّ ما قاله كان ملطّفا جدّا قياسا إلى مستوى الشريط.
يمكن اعتبار الشريط ممتازا...إلى حدود مرور ثلاث دقائق بعد بدايته، إذ يستنفد قضاياه كلّه في هذه المدّة و كأنّ صاحب العمل يقول "تحبّو عالقضايا؟ أهيّة القضايا ! ". رفض لجنة التمويل العمومي( و ليست لجنة الرقابة) لسيناريو الشبّان الثلاثة(رغم أنّه يتّضح بعد ذلك أنّ السيناريو لم يكتمل إذ يعدّل باستمرار) بتعلّة إثارته لقضايا التطرّف الديني يتمّ التعرّض إليه بسرعة طائرة نفّاثة دون الرجوع إليه بعد ذلك، إذ أنّ الشريط لم يوضع لكي يعالج قضايا، بل ليتاجر بقضايا...قضايا أقحمت إقحاما لتمكّن المخرج و صحبه من التفاخر بالعمل النضالي و البطولي و الاستشهادي الّذي قاموا به في سبيل الفنّ و من استغلال أولئك المساكين الّذين يعتقدون فعلا فيما قد قيل عن الشريط و جاؤوا يمنّون النفس بمشاهدة عمل تونسي جريء...لا يمكن أن أقتنع أنّ ثلاث دقائق في أوّل الفيلم و ملاحظة عابرة لا معنى لها حول اللون البنفسجي لغطاء السرير أو حول الرقم سبعة المكتوب فوق السيّارة يمكن أن يجعل منه ذا قضيّة...و تتأكّد النزعة التجاريّة من خلال تلك المشاهد الساخنة الّتي تتخلّل الشريط و الّتي لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بموضوعه بل هي بادية الافتعال إلى حدود الفجاجة، و لعلّ من أنجز العمل أحسّ بأنّ شريطه مضجر للغاية(الشبّان يختبئون طيلة الوقت في شقّة منتظرين الفرج) و لا يمكن للمشاهد أن يتمّه فاختار أن يضع بعض "التوابل" الّتي قد تبقيه مكانه لبعض الوقت و هو ما يعكس قلّة احترام و استهانة بوعي المشاهدين. كان بالإمكان مثلا أن يكون هذا الشدّ عبر إضفاء نوع من التشويق من خلال عرض تفاصيل التخطيط للسرقة و تنفيذه عوض الاقتصار على تصوير شخص يجري حاملا كيسا !
أمّا في ما يخص أداء الممثّلين، فأقلّ ما يقال عنه أنّه لا يليق بممثّلين محترفين، بل أنّه لا يليق حتّى بالهواة...فجميعهم (كبارهم و صغارهم) دون استثناء أدّوا دورهم دون إتقان و بالغوا في حركاتهم. قد ألتمس للشبّان منهم عذرا في نقص تجربتهم و الضعف الفادح للسيناريو و الإخراج الّذي من المفروض أن يقوم بتوجيههم، و لكن ما عذر" نخبة ممثّلي تونس" و لماذا قبلوا تلطيخ سيرتهم الفنيّة بالمشاركة في شريط بهذا المستوى الهزيل؟ أ بلغ اليأس منهم درجة تجعلهم يقبلون بالمشاركة في أيّ عمل مهما كان مستواه؟ حتّى اللقطات الّتي من المفروض أن تثير الضحك كانت تهريجا تجاوزه حتّى مهرّجو السيرك، إذ أنّه كان بالدرجة الأولى إضحاكا بالحركات كان من الممكن أن تقبل لو كان الشريط موجّها للأطفال...
مشاهدة هذا الشريط أكّدت لي أنّنا ما زلنا في "العالم الثالث الفنّي" و هو ما لا يمكن أن يكون راجعا إلى ضعف الإمكانيات لأنّ تجارب أخرى (كسينما أميركا اللاتينيّة و أوروبا الشرقيّة و خاصة السينما الإيرانيّة) تمكّنت من بلوغ مستوى راق للغاية بميزانيات تقلّ عن تلك المخصّصة للأفلام التونسيّة، و يبقى السؤال المطروح هو: لماذا نعيش أزمة إبداع؟