الخميس، 17 يوليو 2025

الأربعون...عندما هرمتُ دفعة واحدة


عندما بلغ المنفلوطي سنّ الأربعين، كتب مقالة يقول في افتتاحها: "الآن وصلتُ إلى قمة هرم الحياة، والآن بدأتُ أنحدر في جانبه الآخر، ولا أعلم هل أستطيع أن أهبط بهدوءٍ وسكونٍ حتى أصل إلى السفحِ بسلام، أو أعثر في طريقي عثرة تهوي بي إلى المصرعِ الأخير هويّاً."

منذ قرأت هذه المقالة، ولمّا أكن جاوزت العشرين، وأنا أفكّر فيما عساني أقول إن بلغتُ هذه السنّ. كانت هذه اللحظة تتراءى لي بعيدة للغاية، في وقت كان فيه البعد الرومنطيقي-التراجيدي غالبا عليّ، فزعا ربّما من شبح الشيخوخة وطموحا إلى شباب أبديّ كالذي ناله أبو القاسم الشابي مثلا. وربّما كنت أعزّي النفس بالتفكير أنّها سنّ النبوة. من يدري؟ لعلّي إن بلغتُها أكون قد اقتربتُ فعلا من تلمّس شيء من "الحكمة".

جاءت هذه اللحظة أخيرا. لم ينزل عليّ الوحي حينها، ولم أبق فتيا كالشابي. وإنّما كنتُ في منعرج جديد على طريق الحياة. لا شكّ أنّني مررتُ بمنعرجات عديدة قبله، لكنّ هذا هو أخطرها بلا مراء. وجدتُ نفسي في هذه السنّ أتحمّل مسؤولية قرارات اتّخذتها عن وعي واستعداد لدفع الثمن، كما وجدتُ نفسي أتحمّل مسؤولية كلّ القرارات التي تردّدت في اتخاذها وأحجمت عن خوضها. كلّ ما خفتُ منه وتجنّبته طيلة سنوات عاد ليلسعني في قدمي كالعقرب، لأرتدّ متوجّعا حائرا أتساءل إن كان عليّ أن أبدأ الطريق من جديد.

تسقط طواحين الهواء في الأربعين. هي لا تتحلّل شيئا فشيئا، بل تتبخّر كأن لم تكن، لتتركك في مواجهة الواقع وصفعاته. ربّما اتّقيت بمثالياتك الكثير من السموم، ولكن ما كان بوسعك أن تظلّ بمعزل عنها إلى الأبد. أبيت أن تكبر، ثمّ هرمتَ فجأة، في لحظة واحدة.

في الأربعين، تصير حصينا تجاه الخيبات. قد تلقّيت منها جُرعات عديدة، فلم يعد لديها أيّ أثر عليك. آمنت، في لحظة ظننتها استثنائيةـ سُمّيت لاحقا بالانفجار غير المسبوق- أنّ كلّ شيء سيتغير وأنّ التاريخ نفسه سيتّخذ مسارا آخر نحو الحرية والكرامة والعدالة لكيلا تظلّ حكرا على أمم دون أخرى. ثمّ أفقت وأنت تقرّع نفسك أن لم تكن قفزت من المركب قبل أن تغرق.

في الأربعين، لا شيء مهمّ سوى المتع الصغيرة. أضحت السرديات الكبرى تثير لديك ضحكة ساخرة. أصبحتَ تبحث فقط عن قطع صغيرة من السلام: جلسة طويلة تحت شجرة صنوبر، غطسة في بحر معزول، ضحكة مجلجلة من طفلك، حضن دافئ، قطعة من موسيقى اكتشفتَها للتو، ثمالة قهوة نسيت وجودها في الفنجان…

لم يعش المنفلوطي حتى يحدّثنا عن الخمسين وما بعدها. من يدري ما كان عساه يقول؟ لعلّه كان يجد في الانحدار من أعلى هرم الحياة مباهج لم تخطر له ببال. أو ربمّا أنا فقط أعلّل النفس بالآمال أرقبها… 

السبت، 17 مايو 2025

صديقي الخنزير الوحشي


 
في المرّة الأولى التي واجهت فيها خنزيرا وحشيّا، ظننتُ أنّي على وشك الموت.

كان ذلك منذ ثماني أو تسع سنوات. كُنتُ أسير في منتزه النحلي، في طريق العين القديمة تحديدا. بدا لي أن أطيل نزهتي، من باب الرياضة، فسلكت سبيلا غير مطروق ومشيتُ فيه لساعة أو نحوها حتّى حسبت أنني على وشك أن أضلّ. كُنتُ على بعد كيلومترات من المدخل الرئيسي، لمّا رأيته.

كان ينزل من أعلى الجبل ماشيا الهوينى. وصل إلى المسلك الذي كنتُ أتبعه وتوقّف للحظة ونظر إليّ. جمد الدم في عروقي، ولعلّ المشهد الذي استحضرته ذاكرتي في تلك اللحظة هو مقتل الطفل في شريط "ريح الفرنان" على يدي حيوان مماثل. هيّء إليّ حينها أنّ الواقف أمامي بحجم الثور. لم أعرف ما عليّ أن أفعل، فلا أحد على مقربة منّي بإمكانه أن ينجدني، ومن الأكيد أنّه لم يكن من الممكن أن أركض أسرع منه. المعلومة الوحيدة الّتي خطر لي أن أستعملها -وهي على الأرجح مأخوذة من وثائقيّ عن الدببة ولا علاقة لها بالخنازير- أن أظلّ واقفا مكاني دون حراك حتى لا أستفزّه. وكان ذلك ما فعلته.

لم يدم الموقف سوى بضع ثوان. لم يعرني ذلك المخلوق الضخم أيّ اهتمام، وأكمل طريقه نزولا. تنفّست الصعداء وحثثت الخطى نحو أقرب مكان عامر لأشعر بالأمان، ولم أذهب نحو تلك المسالك القصيّة منذ ذلك الحين. كُتب لي عمر جديد إذ نجوت من ذلك الحيوان الضاري. أوَ لم يقتل أدونيس الأسطورة على يدي خنزير وحشي؟ أوَ لم يتعرّض الملك روبرت باراثيون لنفس المصير؟ لا شكّ أنّني محظوظ جدّا لأنّي سلمت مما وقعت فيه هذه الشخصيات الخيالية.

لكنّ الخنزير الوحشي هو كذلك بومبا، رفيق النمس تيمون في مغامرات الصور المتحرّكة. وهو هناك مخلوق ظريف، رغم نتن رائحته، يعيش وفق مذهب الهاكونا ماتاتا (أي دون أيّ قلق). أخال خنازير النحلي من هذه الطينة. تعدّدت لقاءاتنا بعد هذه المصافحة الأولى، وأصبحت تغشى الأحياء القريبة من النحلي، كرياض الأندلس والنصر، فيمكن أن تشاهد سربا من الخنانيص تقطع الطريق باحثة عن الطعام في النفايات، ولا يبدو أنها آذت أحدا. يبدو أنّ نعت "وحشيّ" صار مجازا، إذ لم تعد هذه الحيوانات تخشى الناس، فهي لا تهرب حين رؤيتهم وإنما تواصل أكلها في هدوء. كما لم يعد الناس يخشونها. منذ أسابيع، شاهدت أبا وابنيه (الذين لم يكن أكبرهما يتجاوز ستّ سنوات) يقفون على مسافة مترين من الخنازير متأمّلين إيّاها بعجب، فيما الأب يصوّرها بهاتفه. قد أصبحت الخنازير الوحشية حيوانات أليفة الآن!

أقرأ أحيانا منشورات من المتساكنين يبثّون من خلالها تخوّفاتهم من تكاثر الخنازير، وعادة ما يعلّق عليها البعض أنّ هذه الحيوانات في بيئتها الطبيعية، وأنّ البشر هم من يزعجونها لا العكس. أبتسم لقراءة مثل هذه التعليقات، فلو كنّا حريصين فعلا على احترام الطبيعة وكائناتها، لَما بُنيت أحياء -بل مدن- بأسرها فوق غابات ومناطق جبلية، دون أيّ اعتبار للتنوّع البيولوجي ولحقّ الكائنات- من غير البشر- في الحياة. فات الأوان على هذا العيش المتناغم مع الطبيعة! أمّا إذا شئنا أن نعبّر عن تعاطفنا البالغ مع هذه الكائنات الوحشية المسكينة، فيُمكن مثلا أن نشيّد تمثالا ضخما لخنزير وحشي في مدخل النحلي (يسجّله مسؤول ما في قائمة إنجازاته) أو ننشئ فريقا رياضيا نُطلق عليه اسم "الخنزير الرياضي بالنحلي". ربّما سيأتي يوم يصبح فيه الخنزير الوحشي رمزا من رموز البلاد، فنراه على ورقة المائة دينار (عندما تصدر) أو يتصدّر حملات السياحة البيئية. حينها، سأحكي لابني أنني من الأوائل الذين صادقوه قبل أن يصير نجما. وسأضيف بفخر: لقد نظر إليّ في العين مباشرة... ولم يهاجمني!


الأحد، 20 أبريل 2025

هذا ليس شعرا



إذا كنت تقرأ شعري
وفكّرت: ليس له أيّ معنى
فأنت محقّ
فكاتبه نفسه ليس يفهمه
وإذا ما رأيت الخيال نحيلا
كأنّ به علّة الموت
لا تتعجّب
فإنّ المداد رسول السواد
وإن جَرَحَتْ صورة ما شعورك
فاللطفَ أطلُبُ يا صاح
قد مرّ بي مثل ذاك
إذا ما كرهت نشاز القوافي
وقلت: عساه يعلّبها مثلما اعتاده الشعراء
فأنت تصيب فؤاد الحقيقة
لكنّها هكذا قَدِمَتْ
ليتها طَلَبت منك إذنا!
لعلك لست ترى ذاك شعرا
صدقت وأبررت
حتى أنا، كي أكون صريحا، أراه كذلك
لا لون فيه خلاف الرماد
ولكن تعال أخبّرك 
بعض المجانين يركب مكنسة
كي يطير تجاه الأعالي
فلا تأخذ الأمر جدّا
ودعني أحلّق فوق جوادي

الأحد، 13 أبريل 2025

الجدارة في مقابل التبادلية

 


في عالم مثالي، تكون الجدارة معيار التقييم الوحيد.  بمعنى أنه لينال الإنسان شيئا، ينبغي أن يكون مستحقّا له، سواء بالنظر إلى كفاءته الشخصية (كحقه في أن ينال عملا يناسب مؤهلاته) أو إلى حقوقه (كأن يتحصل على خدمة معيّنة لكونه مواطنا أو مستهلكا أو تلميذا أو غير ذلك من الصفات). ومن واجب القانون، كمنظومة مثالية نظريا، أن يكرّس مثل هذا التطابق.

لطالما آمنت بأن الجدارة هي الطريق الوحيد الذي يمكن سلوكه. ربما كان ذلك بفعل نزعة مثالية مزمنة جعلتني أميل إلى ما يجب أن يكون، لا ما هو كائن، أو ربما لأن تكويني القانوني رسّخ لديّ قناعة بأن الحقوق يجب أن تُمنح لا أن تُفتك، وأن الكفاءة يجب أن تُكافأ لا أن تُساوَم. كنت أرى الجدارة كمقياس طبيعي، إن اختلّ، اختلت معه قيم المجتمع ومعايير النجاح. كل ما عداها، في نظري آنذاك، لم يكن سوى تسميات مخففة للمحسوبية والفساد.

لكن مع الوقت، ومع خيبات شخصية صغيرة راكمتها التجربة، تجاوزت غرارة الصبا وبدأت أفهم. بدأت أرى كيف أن العالم، أو على الأقل مجتمعنا، لا يشتغل بمنطق الجدارة بقدر ما يتحرك بقوانين التبادلية.  الناس لا يتعاملون معك على أساس ما تستحقه، بل على أساس ما يمكنك أن تمنحهم إياه، أو ما تقدر على فعله من أجلهم. المحسوبية لم تعد تبدو لي انحرافًا عرضيًا عن المسار، بل صارت جزءًا من نظام كلّي له منطقه الخاص، منطق لا يعترف بالاستحقاق إلا إذا جاء مرفقًا بمنفعة متبادلة.

الأمثلة على ئلك أكثر من أن تعدّ. يكفي أن ترى كيف تُقضى الحوائج في الإدارات. إذا كنت مبعوثا من سي فلان، فستفتح أبواب كانت مغلقة. أمّا إذا لم يعرفك أحد، فحتّى الأبواب المفتوحة يمكن أن تُغلق. وأهل الإدارة بارعون في إيجاد الحجج التي تعفيهم من القيام بأيّ شيء. الوظيفة لا تعني خدمة الصالح العام، بل هي نفوذ ممنوح بسلطة تقديرية تمكّن صاحبها من إسداء خدمات معيّنة والحصول في مقابلها على خدمات مماثلة. أمّا إذا لم يكن لك ما تستند إليه سوى حقّك، فستكون أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام.

في الميدان الثقافي، وهو ميدان من المفروض أن يكون راقيا، الموهبة الصرف تضيع بسهولة إذا لم يكن لصاحبها ما "يفيد" به الفاعلين في المجال. جزء لا بأس به من الاستضافات في الملتقيات الأدبية يخضع لهذا المنطق: أستضيفك اليوم لتستضيفني غدا (غالبا على حساب المال العمومي في كلتا الحالتين) أو لتكتب عنّي أو لتقتني منّي نسخا من إصداري الجديد الذي كان ليتعفّن في قبو ما. أعرف عدد من الأصوات المميزة التي كانت تبشّر بمستقبل زاهر في الميدان الأدبي قبل أن يأكلها النسيان لأنّه لم يكن لها قيمة تبادلية في هذا المسار. هي موهوبة وكفى، فلتبق موهبتها دفينة ما دمت لن أستفيد منها شيئا! هذا ممّا يفسّر بشكل جزئي ركود الساحة الأدبية عندنا، فهي في الغالب لا تقوم على التميّز.

ويبلغ رهان التبادلية أقصاه في الميدان السياسي وبخاصة وقت الانتخابات. في وقت مضى، عندما كانت لنا بعض الحريات، كان هناك من يرفعون أصواتهم للتنديد بـ"المال السياسي الفاسد" في خضمّ الانتخابات. وفي الحقيقة، ليس المال إلا جزءا من المعادلة. من خلال قراءة كتاب جماعي صدر منذ بضعة شهور بإشراف المولدي الأحمر بعنوان "الانتخابات التشريعية في تونس بعد الثورة: نقد أسس المشروعية السياسية للنخب"، يمكن أن نفهم أنّ جزءا كبيرا من التحشيد الانتخابي لم يكن يستند لا على البرامج ولا على المواقف، وإنّما بالأساس على هذا المنطق التبادلي. بمعنى آخر، كفاءة المترشّح أو نزاهته أو فصاحته لا تهمّ بقدر ما يهمّ النفع الذي يمكن أن يقدّمه لي بشكل مباشر. إذا أمكنه توظيف ابني أو التوسّط لإخراج ابن أخي من مركز الإيقاف، فهو مرشّح جيّد وسأصوّت له. أمّا إذا لم يكن له من المزايا سوى برنامج يعد بالعدالة الاجتماعية وسيرة تزخر بالإنجازات الأكاديمية ومسيرة نضالية باهرة، فذلك لا يعني شيئا! وهكذا، خسر كثير من المتمرّسين في النضال السياسي المعارك الانتخابية لأنهم لم يفهموا كيف يفكّر الناخب.

ربّما حاولت الدولة الوطنية في بادئ الأمر تكريس معيار الجدارة، وما "المصعد الاجتماعي" الذي يكثر التحسّر عليه إلا عنوان لذلك، حيث كان يمكن للنجابة في الدراسة وحدها أن تكفل مستقبلا مشرقا لصاحبها. لكنّ حبال هذا المصعد تآكلت، حتّى لم يعد يمكنه أن يتجاوز القبو. أذكر مسؤولا رفيعا في العهد البائد كان مكروها من أهل بلدته، رغم كفاءته العالية التي أتاحت له شغل عديد المناصب. لم يكن ذنبه ليستحقّ هذه الكراهية إلّا لكونه "لم يخدم" أهل بلدته، بمعنى أنّه لم يمنحهم امتيازات فلم يربحوا منه شيئا! كلّ ذنب المسكين أنّه امتنع عن المحاباة!

المنطق السائد للنجاح اليوم يقترب من منطق العصابات. لنذكر دون كورليوني في فيلم "العرّاب" إذ جاءه من يطلب منه خدمة، فأجابه إليها بعد لأي، ولكن بشرط "في يوم ما، وقد لا يأتي هذا اليوم أبدا، قد أطالبك بردّ هذه الخدمة". هذه هي التبادلية في أوضح تجلياتها. ولعلّ مشكل الحالمين في هذا الوطن أنّ حلمهم منعهم من الانخراط في العصابات، فلم يبق لهم مكان غير الهامش.


الخميس، 11 مايو 2023

قطّة المكتب

لمّا كنت أدخل إلى المكتب، اعترضتني تلك القطّة التي تعتبر كلّ المبنى بيتها. لطالما جالت بين الغرف بكامل الحريّة، ودلّلها الجميع تقريبا إذ كانوا يداعبونها ويقتنون لها من الأكل ما يشبعها. انتفخ بطنها في المدّة الأخيرة، وظننّا أنّ ذلك ربّما كان من عواقب التخمة. إلّا أنّها فوجئنا به فيما بعد وهي تضع أربع قطيطات. هرعنا جميعا وقتها لنشاهدها وهي تحتضن صغارها. وهيّء لها البعض مكانا في الخارج يكون لعائلتها مأوى.
لعلّي كنت أقلّ الناس احتفاء بها. ربّما لأنّي أنحدر من عائلة كلّ فتياتها يخشين القطط، وذلك ما دعاني إلى اتّخاذ موقف متضامن معهنّ، وإن بشكل غير واع. ربمّا يعود ذلك أيضا لأنّ لونها المائل إلى الخضرة كان يبدو لي منذ صغري، بالخطوط الداكنة التي فوقه، لونا قبيحا. كان وجودها في المكتب مزعجا لي إذ أنّها كانت تقتحمه متى شاء لها وتلتصق بالأرجل مصدرة قرقرة غريبة. دخلت مرّة مكتبي بعيد أن أنجبت، وجاءت تتمسّح على أقدامي. كنت شديد الانشغال بما أعمل عليه وغير مهتمّ بالمرّة بما تريده، فتجاهلتها تماما. بقيت هي برهة في ركن خفيّ عليّ ثم انصرفت. بعد ثوان، غزت رائحة كريهة أنفي. نظرت فرأيت بركة من السوائل والشعر وسط المكان الّذي كانت فيه. اشتدّ تقزّزي وغادرت المكان على الفور. صرت شديد النفور منها. مرّة كنت أهمّ بالدخول لمّا وجدتها وهي تحاول إيجاد منفذ إلى الداخل. اجتهدتُ حينها لكي أغلق الباب في وجهها، وكأنني أنتقم منها لفعلتها الشنيعة منذ أيّام.
لكنّها لمّا اعترضتني هذه المرّة لم تبد خوفا. وقفت أمام الباب، وتبادلنا النظرات. أدارت جسمها قليلا لكي يواجههني شقهّا الأيسر. كان المنطقة المحاذية للبطن خالية تماما من الشعر وفيها ما يُشبه آثار الجرح. كأنّ شيئا ما حاول أن يثقب جنبها نحو الخارج تاركا أثرا من بعض شعرات سوداء. لا أدري إن كان ناجما عن الولادة أو أصيبت به بعد ذلك أو كان بفعل فاعل. في كلّ الحالات، كان منظرا مؤلما. حاولت إغماض عيني عنه، ودخلت المبنى دون أن تُحوّل عنّي نظراتها، وكأنّها تشكو إليّ.
ظلّ المشهد يلاحقني كامل اليوم، مصحوبا بشعور بالغثيان. ما إن استغرق في أيّ شيء، حتّى تنفتح في خيالي نافذة عليه. كنت أحاول أن أطرده من رأسي. لا تنقصني هذه القطّة الحمقاء حتّى تضاف إلى جملة مشاغلي. لمّا بلغ اليوم نهايته، وجدتها تنتظرني أمام الباب. ألقت عليّ نفس النظرة، وقامت بنفس الحركة لتريني جرحها. كدت أصرخ فيها: ماذا تريدين منّي؟ فهمت أنّك متألّمة وأنا أرثي لحالك، أيّتها القبيحة البائسة، لكن ما عساني أفعل لك؟ لم تمهلني هي، وانسلّت مبتعدة عنّي.
حتّى في الليل، وجدت طيفها يهاجمني دون سابق إنذار. كنت أقرأ كتابا، من المفروض أنّه بعيد كلّ البعد عن القطط وعوالمها، كانت فيه فقرة عن رمزيّة القطط في مختلف الثقافات: كيف قدّسها المصريون وجعلوا من آلهتهم ما له رأس قطّة، وكيف تشاءم منها الغربيون وجعلوا من حيازة قطّة دليلا على ممارسة ضروب من السحر.
لا أدري إن كانت قطّة المكتب رمزا إلهيا أو نذير شؤم. كلّ ما أرجوه منها أن تعيد إليّ ما سرقته من نفسي.

الأربعاء، 17 أغسطس 2022

عندما جعلنا من "عرابنية" مطربة تونس الأولى

 

tunisiaslum.com

في أيّام مراهقتي، كنت مولعا بقراءة الجرائد. كان لكلّ يوم من الأسبوع جريدته الخاصّة به، وكان يوم الخميس مخصّصا لجريدة "الأخبار". كنت أتقصّى منها خاصة أخبار الرياضة، كما كانت تعجبني منها بعض المقالات ذات الطابع النقدي والساخر، ومنها ركن "عيون على التلفزيون" لنجيب الخويلدي.

على أنّ هذا الركن أثار حنقي ذات مرّة. كتب صاحبه طويلا في مدح أمينة فاخت، متحسّرا على أنّها لم تجد الصيت الّذي تستحقّه في العالم العربي في حين أنّ فنّانات محدودات المواهب نجحن في ذلك، مثل ماجدة الرّومي! ذهلت، وأنا الّذي لم أتجاوز السبعة عشر ربيعا آنذاك، بهذه المقارنة وقد كنت حينها في أوج افتتاني بالفنّانة اللبنانية. لم يخطر ببالي قطّ أنّ هناك من يجرؤ أن يقرن أمينة بفنّانة لها منجز فنّي مثل ذلك الّذي لماجدة الرومي، فما بالك بتفضيلها عليها! حبّرت رسالة طويلة إلى ذلك الصحفي ملخّصها فيما أذكر أنّ الأصوات الجميلة موجودة على قارعة الطريق، ولكن ما يصنع الفرق بين مغنّ وآخر هو حجم المشروع الفنّي الّذي يحمله، وبناء على هذا المقياس، فإنّ المقارنة بين مدرسة في تخيّر الكلمات وانتقاء الألحان بما يضمن دائما مستوى عاليا من الرقيّ وبين من يعيش على العرابن ولا يُنتج شيئا ليس إلّا ضربا من الخطل.

لم أرسل ما كتبته، ولعلّي كنت أشكّ في أنّه يمكن أن يغيّر شيئا. والحقيقة أنّني لم أذكر من أمر رسالتي تلك شيئا إلى حدود الآونة الأخيرة، لمّا أحيت أمينة فاخت حفلا بقفصة أثار (كما تقعل دائما) جدلا حول لباسها وحركاتها. قرأت الكثيرين ممّن يدافع عنها وعن مكانتها، وأنّ ما تفعله ليس سوى "هبال" محبّب يقبل منها في جميع الحالات باعتبارها "فنّانة كبيرة".

ما الّذي قدّمته أمينة إلى الفنّ لتستحقّ هذه المكانة؟ إن نزعنا من رصيدها الأغاني الّتي أخذتها من التراث، وتلك التي سرقتها من فنّانين تونسيين أو اقترضتها من فنّانين مشارقة، فما الّذي يبقى منه؟ حتما لا شيء ممّا يمكن أن يصنع "فنّانة كبيرة" أو حتّى فنّانة "حاف". أفهم أن يُعجب أحدهم بصوتها، أو أن تستثيره إيحاءاتها، وهو ما يمكن أن يجده في مغنيّة في كباريه، أمّا أن يزعم أكثر من ذلك، فقد ضلّ ضلالا بعيدا.

تعبّر أمينة فاخت عن عقليّة مكرّسة لدينا، تقدّس الكسل وتركن إلى التواكل وتبحث عن النجاح من أرخص أسبابه. وجدت لديها كنزا في صوتها الجميل، فلم تبحث عن استثماره وإنّما جعلته لها ريعا يدرّ عليها من مداخيل المهرجانات والأعراس ما يغنيها عن الاجتهاد والإنتاج، لا سيّما وقد "حرحرت" ذلك باللعب على إثارة الغرائز. لم يجعلها ذلك تنجح فحسب، بل ها هي منذ عشرين سنة أو أكثر وبلا إنتاج يُذكر تُعتبر لدى الكثيرين "مطربة تونس الأولى". لا أرى في ذلك سوى غوصنا في أعماق بئر لا قاع لها من الرّداءة.


الأحد، 8 أغسطس 2021

عام ‏تحت ‏الشمس

في اللحظة التي جاء فيها زيد إلى هذا العالم، كنت أستمع إلى أغنية "ها هي الشمس تأتي"، وأخال أنّ هناك شمسا أشرقت فعلا في حياتي.
منذ الأسابيع الأولى، صرت وزيدا وأمّه نقضّي عدّة ليال معا. كنت متعوّدا على السهر لساعات متأخرة، ولكن أصبح للسهر مذاق آخر. لم تعد هواجسي أو رغبتي في إضاعة الوقت ما تبقيني مستيقظا، بل منادمتي للحياة وهي تخطو خطواتها الأولى وتكبر ليلة بعد ليلة.
منذ أوّل أيّامه، كان زيد طفلا بسّاما. صحيح أنّ الطب يقول أنّه لا يبتسم تفاعلا قبل أربعين يوما، وصحيح أن الثقافة الشعبية تقول أنه في ذلك العمر  تضحكه الملائكة، لكن شيئا في قلبي كان يخبرني إنه إنما كان يبتسم لي ولأمه لأنه يعرفنا من قبل.
لعلّ ذلك كان من أوّل ما شكّل علامات طفل استثنائي. من الجائز للغاية أن يكون يهيّأ إليّ ما يهيّأ لكل أب من طفله، لكنّ زيدا ما انفكّ يؤكّد ذلك. كنت في مرحلتي البيتلزية وقتها، وكنت أسمعه معي ما تيسّر من أغاني البيتلز. في شهره الرابع، بدأت ألاحظ أنه يتفاعل مع بعض الأغنيات بشكل خاص. وبمرور الوقت، بدأت أكتشف أنّ الرجل فعلا صار له ذوق، فيفضّل أغنيات على أخرى. أرى كذلك دهشته المبهرة وهو يقف فاغر الفم أمام لوحة ما. هل ترى فنّانا يكبر فيه؟
على غرار ما قال أنسي الحاج: في حياتنا لا مكان لزيدون... كلّ المكان هو لزيدون وحده. افتكّ هذا الصبيّ الوسيم مكانه في حياتنا بسرعة كبيرة. كلّ الكلام عنه. كلّ الانفعالات حوله. كلّ الدار له. لا شيء أحبّ إلى قلبي من أن أراه ومعالم شخصيته تترسخ شيئا ما كلّما سار على درب الحياة يوما.
لطالما كان لي توجّس من الأبوة لعظم مسؤولياتها، ولكنني مع زيد أراني أنغمس فيها ضاربا عرض الحائط بكلّ الريبيات. زيدون هو الصخرة التي يتكسّر عليه كلّ ذلك التمركز الرهيب على الذات، وأراني لمّا صرت أبا، أني في طريقي لأصير إنسانا أفضل...