طبعا كنت أعرف البيتلز، لكنّي لم أعرفهم حقّا. أعني أني لم أكن أعلم عنهم سوى العناوين: فرقة موسيقية بريطانية في الستينات، ولا شيء غير ذلك سوى ما اعترضني أثناء دراسة الأنجليزية من نصوص عنهم. في حقيقة الأمر، لم يكن يعنيني أمر الموسيقى الغربية كثيرا. صحيح أنني كنت أستمع قليلا إلى الموسيقى الكلاسيكية وأحضر حفلات الأركسترا السمفونية التونسية لكنّ ذلك لم يكن غير انفتاح عرضي وجزئي. كنت أعيش في عالم مغلق تهيمن عليه فيروز خصوصا والموسيقى اللبنانية بشكل عام. كوّنت لنفسي نظريات شديدة الصرامة عن ماهية الموسيقى الجيدة جعلتني أدور في إطار محدود للغاية لا يتجاوز بضعة أسماء.
في الفترة التي تلت تخرّجي من الجامعة، عرفت بعض الانفتاح. أصبح بإمكاني مثلا أن أستمتع بما يقدّمه زياد رحباني الذي كنت أعدّه فيما مضى عدوي الأوّل بما أنّه "دنّس" تراث الرحابنة الكبار. لكن أخال أنّ لأختي ياسمين أكبر الأثر في القفزة الانفتاحية التي حصلت فيما بعد. عندما كانت طفلة، كنت حريصا أن أنقل إليها نظرياتي الجامدة وأسمعها فقط الموسيقى التي أراها جيّدة، فكانت وهي لا تزال في سنوات الابتدائي الأولى تحفظ مقاطع كاملة من مسرحية "ميس الريم". غير أنها تمرّدت بعد ذلك، لحسن حظّها وحظّي. كنت أسخر في البداية مما تسمعه، فكل صوت يتجاوز 20 ديسيبيل كان عندي ضجيجا خالصا لا معنى له، والصور الشعرية التي تتغنى بسيارة مازيراتي في نهاية الطريق لا تدعو لغير الضحك. لكن فيما بعد، وجدت في نفسي فضولا للتعرّف على عالمها هذا لا سيّما وقد كان لها من الحجج الموسيقية ما يقنعني. وما لبثتُ أن وجدت نفسي أبحر في هذا العالم، عالم الموسيقى الغربية، ترشدني هي، كما قاد فرجيل دانتي في العالم السفلي.
شهور الحجر الشامل وما بعده كانت ثريّة للغاية، والطريف أن الرحلة فيها كانت عكس التيار. لم نبدأ من الينابيع، بل مما هو كائن الآن. بدأنا بتايلور سويفت، حيث اختارت لي فرجيل منتخبات من أغانيها تعكس تطوّر مسيرتها الغنائية. وجدت طرافة كبيرة في الصور المستعملة، وأبهرني خاصة الطابع الشخصي الواضح لأغانيها. ما تكتبه انعكاس يكاد يكون مباشرا لما تعيشه. بدا لي ذلك مُفتقدا إلى حدّ كبير في الأغنية العربية. لا يزال مفهومنا للأغنية الجيدة من رواسب ثقافة الطرب (رغم محاولات اختراقها العديدة على مدى عقود)، حيث تتكرّر نفس الكلمات لتعيد نفس المعاني، ولا يهمّ سوى أن "نتسلطن".
انتقلنا بعد ذلك إلى كوين، وهذه المجموعة تحتاج تحليلا مطوّلا. حسبي الإشارة أنّ معظم أغانيها تعكس تجربة وجودية عميقة منذ زمن البدايات حتى تبلغ ذروتها مع أغان مثل "الملحمة البوهيمية" و"أغنية النبي" حيث تتجاور الأنماط الموسيقية دون أن تتنافر إذ تصهرها رؤية أصيلة تعرف بالضبط أين تبغي الوصول يجسّدها صوت فريدي مركوري الجبّار وحضوره المسرحي الباهر، إضافة إلى تصوّر سابق لعصره يخصّ دور الصورة والفيديو. صالحتني كوين مع الصخب، فصار يمكن أن يكون عندي تعبيرا فنيّا راقيا أنسجم معه إلى أبعد حد.
بعد درس نظري قصير جدا ولكن مفيد للغاية عن الهارموني وصعوبة تطبيقها في الموسيقى العربية، وصلنا إلى البيتلز. كنت قد عرفت عنهم بعض الأشياء خلال السنوات الأخيرة، فقرأت بعض المقالات وشاهدت وثائقيا حولهم واستمعت لبضع أغان من أشهر ما أدّوا. اتّبعت مرشدتي نفس المنهجية: ثلاثة وخمسون أغنية مختارة تتبع تطوّر مسيرتهم من أوّل إلى آخر ألبوم أصدروه. استمعت إلى كل القائمة دون تركيز كبير في البداية، فكنت أضع موسيقاهم وأنا بصدد القيام ببعض الأشغال أو المشي لمسافة طويلة. ثم أعدت الاستماع إلى المختارات، ثم إلى أغان بعينها، ثم إلى ألبوماتهم جميعها، ثم إلى مختارات مجموعة بطريقة مختلفة. احتجت إلى أن أستمع عديد المرّات إلى "حقول الفراولة إلى الأبد" لكيلا أعتبرها مجرّد ترنّم "مزطول".
عندما تتبع مسيرة البيتلز، تشعر وكأنك تتوغّل داخل غابة. في أطرافها، تجد الأشجار متباعدة ومتشابهة، وكلّما مشيت أكثر نحو قلبها يتنوّع ما تراه ويتكثّف حتى تعترضك أصناف نادرة لم تكن تعتقد في وجودها حتى تجد أنّك تهت ولم تعد تعرف كيف تخرج، وتودّ مع ذلك أن يطول تيهك. في بداياتهم، كانت الكلمات بسيطة تعبّر في أغلب الأحيان عن الحب المراهق، مع تركيز على نغم رئيسي بسيط بدوره ولكنّه سهل الحفظ فيعلق بخاطرك فورا. ليست البساطة سهلة بالضرورة، وقد حققت للبيتلز قدرا كبيرا من النجاح في البدايات، ولكنّهم لم يبقوا هناك. يقول بول مكارتني أنهم كانوا يرفضون الاستسلام للضجر، فيتجهون إلى التنويع في تجاربهم. كان التطوّر كبيرا، والمثير للانتباه أنه وقع في زمن قصير للغاية. تشعر بفرق شاسع بين الاستماع إلى "Love me do" سنة 1962 وبين الاستماع إلى أغاني ألبوم "فرقة نادي القلوب الوحيدة للرقيب بيبر" سنة 1967، حيث بلغت الأغاني درجة عالية من التطوّر على مستوى الكلمات وعلى مستوى التركيب اللحني. في سنوات قليلة مرّوا من "السكيفل" و"الروك آند رول" في تمثّله الساذج إلى أنماط تستوحي التعقيد السمفوني وتنفتح على موسيقى العالم أينما وجدت، وخاصة الموسيقى الهندية. في تطوّرهم هذا، كان البيتلز مدفوعين بحسّهم الفني المترفّع الذي يرفض الاستسلام للدوافع التجارية على إغراءاتها وقوة ضغطها لا سيّما بالنسبة إلى شباب في بداية مسيرتهم. في سنة 1966، وحين كانت الفرقة في أوج نجاحها، قرّر الأربعة التوقف عن إحياء حفلات عامة، ذلك أنهم ولشدّة الهوس بهم (البيتلمانيا) كان صراخ المعجبات والمعجبين يمنعهم من الاستماع إلى أنفسهم وهم يعزفون. يقول رينغو ستار عن ذلك: كنت أحاول تبيّن أين وصلت الأغنية من حركات زملائي وأنا أنظر إليهم من الخلف، لا أظن أننا كنا نعزف موسيقى جيّدة آنذاك. لذلك تخلّى البيتلز عن الحفلات، وهي مصدر أساسي للشهرة والدخل، ليتفرّغوا لإنتاج ما يعتبرونه موسيقى جيّدة في الاستوديو. كان ذلك جنونا بلا ريب بالمنطق التجاري، ولكن هذه "الهبلة" هي من سماتهم الأساسية. البيتلز منذ بدايتهم رفض لكل أنواع السلطة مهما كان مأتاها: رفض أن تُقرّر لهم الموسيقى التي يعزفونها، رفض للخضوع للنواميس الاجتماعية، وإصرار على أن يقرّروا مقاييسهم بأنفسهم. كانوا تعبيرا حيا عن تمرّد الشباب وتحدّيه للقيم السائدة وعدم مبالاته بأيّ شيء. رغم توسيمهم من قبل الملكة، لم يمتنع جون لينون عن التعريض بسخرية بالملكة الأم لمّا حضرت إحدى المناسبات التي غنوا فيها. ربما يكون لانحدارهم من الأوساط الشعبية في ليفربول دور في تغذية هذا التمرّد ولعلّ ذلك ما حدا بهم إلى الغناء "أعطني المال، ذاك ما أريده" أو مهاجمة سياسة الحكومات البريطانية الضريبية بشكل لاذع في "رجل الضرائب" أو حتى التغني الساخر بالعدوّ اللدود في "عودة إلى الاتحاد السوفياتي". لكنهم قاموا بتمرّدهم هذا بكثير من المثالية التي دفعتهم إلى الانتصار إلى كل ما يعتبرونه قضيّة عادلة. رفض البيتلز الغناء في جاكسونفيل في الولايات المتحدة لمّا علموا أن السلطات ستطبّق الفصل العنصري على جمهورهم، وأهدوا إلى حركة الحقوق المدنية الأمريكية أغنية "الطائر الأسود" الاستعارية الجميلة، وأصبحت أغنيتهم "كلّ ما تحتاجه هو الحبّ" هي النشيد الرسمي لصيف الحب سنة 1967.
ربّما يمكن إرجاع شيء من هذه المثالية إلى طفولة أبت أن تكبر عند البيتلز. الكثير من أعمالهم محكوم بمنطق اللهو، مجرّد الرغبة في العبث الصبياني أو حيرة الصغير أمام تعقّد العالم. الطفولة من منابع الإبداع لدى البيتلز. نجدها حاضرة بوضوح مثلا في "لوسي في السماء مع الماسات" أين التقط جون لينون عبارة نطق بها ابنه ليبني عالما كاملا من الخيال الخصب النازع نحو السريالية. حزن نفس الطفل كان دافع بول مكارتني ليكتب "هاي جود" لمواساته. أغنية "الغواصة الصفراء" هي بامتياز أنشودة للأطفال. ترتبط الطفولة بتشكّل اللاوعي لدى المرء، وهو ما يجد أجلى مظاهره في الحلم الذي نراه كذلك من دواعي التأليف لدى البيتلز. "أوحِيَ" نغم أغنية "أمس" إلى بول بشكل غامض أثناء نومه، وكان حواره مع أمه الراحلة في المنام دافع كتابة "لِيَكُنْ Let it be". يتحفّز اللاوعي كذلك بشكل إرادي من خلال استعمال العقاقير، وهو ما يتجلّى في المرحلة البسيكيليدية لدى البيتلز، منذ ألبوم "ريفولفر ".
قد تكون هذه الينابيع المتحرّرة من كلّ قيد هي ما جعل موسيقى البيتلز ما هي عليه: مكثّفة الشعور، نابضة بالحياة، تتدفّق إلى النفس بلا أيّ حواجز. هذا ما أوصل أغانيهم إلى ذرى جمالية عالية فتنظر بشكل أصيل إلى مختلف المشاعر والمواقف الإنسانية: لا شيء يعبّر عن الوحدة مثل "اليانور رجبي"، لا شيء يعبّر عن الوقوع في الحب مثل "شي ما something"، لا شيء يعبّر عن الأمل مثل "ليكن". لاشيء يعبّر عن الارتباك الحائر مثل المقطع الأركسترالي في "يوم في الحياة". طريقة وضع هذا المقطع تكشف في نفس الوقت عن بساطة وعبقرية الطرح. طلب بول من الأركسترا السمفونية المصاحبة أن يبدأ كل فرد منهم في العزف من أدنى نوتة ممكنة في آلته إلى أعلى نوتة، كلّ بوتيرته الخاصة. لم يفهم أفراد الأركسترا المطلوب، ويبدو أن بعضهم امتعض من تضييع وقته مع شباب لا يبدو أنهم يفهمون الموسيقى، فتدخّل المنتج جورج مارتن ليترجم المطلوب باللغة اللتي يفهمونها. كانت النتيجة عملا فريدا من نوعه.
لم يكن من الممكن للبيتلز أن ينجزوا ما أنجزوه لولا الديناميكية الداخلية الثرية للغاية التي كانت بينهم. جمع بينهم الكثير، ولكنّ كلا منهم كان شخصية فريدة من نوعها: جون لينون بطبعه المتمرد وحسّه الساخر وقدرته على التجريب، بول مكارتني بحسّه التنظيمي وخياله الواسع وانفتاحه الموسيقي الكبير، جورج هاريسون بهدوئه العجيب وروحانيته العميقة وتفرّده في العزف، رينغو ستار بلطفه الساحر ودقّة إحساسه وقدرته الاستثنائية على التحكم في سرعة الإيقاع. هيمن الثنائي لينون ومكارتني على التأليف في البداية، ولكن لم يكن النجاح ليتحقق لولا جهود كل فرد من الأربعة، وفي المراحل اللاحقة أثبت جورج أنه لا يقلّ موهبة في التأليف عن زميليه. كلهم كانوا يؤدون أغاني المجموعة، فلم تشتهر بصوت أحد منهم فحسب، عكس ما وقع لكوين مع فريدي مركوري. عندما ضُربت هذه الديناميكية، بدأت نهاية البيتلز. يعبّر جون لينون عن ذلك عندما قال عن ألبوم "طريق آبي"، وهو آخر ألبوم سجّله البيتلز معا وذلك عندما تعمّقت الخلافات بينهم: "كان ألبوما جيدا، مثل "رابر سول"... لكن لم تكن هناك حياة في "طريق آبي" ". هذه الديناميكية كانت تتعزز بمجهود أشخاص من خارج الأربعة، منهم المنتج جورج مارتن وخاصة المدير براين ابستاين، الذي شكّلت وفاته ضربة قاصمة للمجموعة. بمثل هذه الروح الجماعية، كان البيتلز نموذجا للمشروع الذي يتجاوز أفرادَه. بعد الانفصال، عرف كل فرد من الأربعة طريقه إلى النجاح، ولكنه لم يكن أبدا بمثل النجاح الذي حقّقوه كمجموعة. ظلّ كلّ منهم يعرّف بكونه "بيتل" سابقا أكثر من كونه فنانا منفردا.
لم تتجاوز فترة البيتلز الإبداعية ثماني سنوات (1962-1970) لكن انتاجهم في هذه الفترة القصيرة بلغ قرابة المائتي أغنية، أغلبها، وخاصة في سنينهم الأخيرة، "عيون" كما كان يقال عن روائع الشعر العربي قديما. في الأسابيع الأخيرة، لم أفعل غير الاستماع إليهم. تفجٌر لي عالم من الجمال غرقت فيه بكلّي، ولا أخالني أخرج منه قريبا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق