سبعون يوما أو يزيد مرّت منذ أن دخلنا الحجر الصحّي الشامل. لا أظنّ أنّ أحدا كان يتوقّع، حين دخلنا السنة الجديدة، أنّه من الممكن أن نمرّ بمثل هذه التجربة: عزلة شديدة وتجنّب لمخالطة الناس إلّا في حالة الضرورة وغلق لأغلب الأماكن العامة... طرقات خالية تماما منذ السادسة مساء (في البداية) وهوس يتتبّع أعداد المصابين والمتوفين... كلّ ذلك بداعي الخوف من وباء قاتل قادم من أقصى الشرق لم يجد الأطباء له علاجا. يبدو ذلك من بعض سيناريوهات نهاية العالم! على أنّ هذه التجربة، وهي تشارف الآن على نهايتها، لم تكن سلبيّة بالمرّة. هناك الكثير ممّا تعلّمته في هذه الفترة التي لم أغادر المنزل فيها إلّا لماما:
1. المنزل ليس بالمكان السيّء
قبل بداية الحجر الصحّي، لم يكن المنزل بالنسبة لي تقريبا سوى مكان للمبيت. أقضي ثماني ساعات في العمل، تضاف إليها ساعتان بين التنقّل والغداء. بعد العمل، قليلا ما أرجع مباشرة إلى المنزل. دائما يكون هناك ما أفعله: سواء تعلّق الأمر بقهوة مسائية أو بحضور محاضرة أو مشاهدة فيلم أو زيارة عائلية، لا يكون هناك داع للتبكير في العودة. لا يتبقّى للمنزل من الوقت سوى ما يكفي للعشاء والنوم، هذا إذا لم يكن هناك برنامج ليلي. هذا في أيّام الأسبوع العادية، أمّا نهاية الأسبوع فلها برامجها التي لا تشمل البقاء في المنزل.
في فترة الحجر الصحّي، أصبح البقاء في المنزل ضرورة، فاضطررت إلى التعرّف عليه من جديد. اكتشفت أنّ هناك شرفة تصلح لأكثر من نشر الثياب. أصبحت هي المنفذ إلى الخارج، المدخل إلى ضوء الشمس، والواجهة على الخضرة القليلة المحيطة بنا. صارت الشرفة من أمكنتي المفضّلة التي أقضي فيها بعض الوقت في المطالعة والاستماع إلى الموسيقى إذا كان الطقس ملائما. أمّا إذا اشتدّت الريح بعض الشيء أو انخفضت الحرارة، فهناك حلول أخرى. اكتشفت أنّ الأريكة المهملة مكان ممتاز للقيلولة والتأمّل. أمّا الحشيّة الملقاة أمام التلفاز، فهي أغلى الأماكن على الإطلاق، إذ يضحي التنافس على حيازتها شبيها بحرب لامتلاك عرش وثير.
2. الضرورات أقلّ مما نتصوّر
في الأيّام الأولى من الحجر الصحّي، كانت هناك حالة من الهلع: ماذا إذا لم يوجد بالمحلاّت ما يفي بحاجات الجميع طوال فترة لا ندري أتطول أم تقصر؟ ماذا نفعل وقد أغلقت جميع المطاعم فلم يعد هناك من سبيل إلى شباتي أو إلى لبلابي؟
لكنّ الأمر لم يكن كارثيا. لم يُفتقد من المواد الكثير، وما افتُقد اكتشفنا أنّنا قادرون بسهولة على العيش من دونه. ربّما لا يكون شيء في الدنيا ضروريا إلى هذا الحدّ! صار العثور على كميّة كافية من الخبز نعمة كبرى، ووجود الدواء في الصيدليات داعيا إلى الفرح. أمّا الأكل في المنزل، فبعد أن فقدت بذخ تعويضه بأكل المطاعم، اضطررت إلى تقدير اجتهاد زوجتي في إعداده طوال هذه السنوات. هو أكل لذيذ وصحّي، فلم كنت أستسهل استبداله فيما مضى؟ لم كنت اختار تدمير صحّتي بما يُطبخ في زيت يبيت أيّاما وما ملوحته عالية لا تترك لطعمه الأصلي مكانا؟ طبعا هذا لا يمنع من العودة إلى بعض "الفساد" في الأكل في أقرب فرصة!
اكتشفنا كذلك أنّه يمكن أن ندرّب أنفسنا لنتعامل مع بعض ما تعوّدنا التعويل على الآخرين في القيام به. مع إغلاق محلّات الحلاقة، اضطررت لوضع رأسي بين يدي زوجتي، وفي الحقيقة كانت النتيجة مشرّفة للغاية. كذلك وجدت أنّني، مع بعض التوجيهات، قادرا على أن أقوم بطبخ بعض الأكلات البسيطة. لم يكن الأمر بهذه الصعوبة!
3. القهوة: سائل الحياة
أعشق القهوة منذ كنت طفلا. أنتمي إلى عائلة تعتبر قهوة المساء من طقوسها المقدّسة. حالة تشبه الجنون تنتابني إذا ما أقبل الليل ولم أتناول قهوتي المعتادة. في العادة، توفّر المقاهي الفرصة للاستزادة من هذا السائل العجيب ثلاث أو أربع مرّات في اليوم.
كان عليّ في هذه الفترة أن أعود إلى طهو قهوة المساء بنفسي. نوّعت في الأنواع، وجرّبت مقادير مختلفة للوصول إلى التركيبة المناسبة تماما لـ"تعمير الرأس" كما ينبغي، فلا تكون القهوة مركّزة جدّا صداعها أكثر من نفعها، ولا مائعة جدّا أثرها لا يزيد عن أثر الماء أو الحليب. كان النجاح متفاوتا، لكن على أيّ حال كان ما حقّقته من الممكن أن أضخّ في دمي ما يكفي لكي أحافظ على شيء من النشاط. أكّدت هذه الفترة بالنسبة لي شيئين: أنّ الحياة دون قهوة مستحيلة، وأنّ الكابوسان المعصورة في المقهى لا تضاهى.
4. الغير ليس الجحيم دائما
طالما كان التعامل مع الآخرين أمرا مقلقا بالنسبة لي. لا أملك دائما من اعتدال المزاج وسعة الصدر ما يمكّنني من التفاعل مع الناس ومجابهة أهوائهم وتقلّباتهم وعنادهم وانفعالاتهم. أريد لكلّ شيء أن يتمّ كما أريد، وبالإيقاع الذي أريد وعادة ما يقف الآخرون حائلا دون ذلك. يقلقني الزحام كثيرا، ولا أحتمل الصراخ. أحد الخيالات التي لازمتني في صغري أن أعيش بمفردي منعزلا عن كلّ هذه الإزعاجات.
عندما أتاح لي الظرف شيئا من ذلك، لم يكن الأمر ممتعا إلى هذا الحدّ. صحيح أنّ المرء تمتّع بقدر من الهدوء، لكنّ الهدوء الذي يفوق حدّه مخيف. لا بدّ من شيء من الصخب لتستقيم الحياة، وإلّا لن يكون للهدوء معناه. عندما تسير لقضاء شأن ما، وتجد الشارع مقفرا، يخالجك فراغ قاتل. عندما تخشى من اقتراب أيّ شخص منك، ثمّة رياح باردة تغزوك فتشتاق إلى الأيّام التي كان متاحا فيها للأجساد أن تتقارب وحتّى تتلامس. تتوق حتّى إلى محادثة لا معنى لها مع شخص غريب عنك تماما.
طبعا تتيح الوسائل الحديثة قدرا لا غنى عنه من إمكانيات التواصل، ولكن لا يمكن لها أن تعوّض التواصل المباشر. لا شيء يعوّض قهوة المساء مع العائلة أو جلسة في "دار زمان" مع رفاق الجمعية.
5. نعمة الوقت
لا يتيح نسق الحياة الحديثة الكثير من الوقت لنتمهّل. نركض أغلب الوقت، وحتّى إذا أتيحت الفرصة لشيء من التسلية، فإنّنا نبادر إليها بنوع من العصبية والعجلة وكأنّنا نقوم بواجب ما، قبل أن نعود إلى العيش تحت وطأة الضغط الذي أمسى جزءا لا يتجزّأ من الحياة العادية.
خلال الحجر الصحّي، ربّما كان هناك في البداية شعور ما بالغرابة. عندما نعتاد أن نركض، يضحي الاسترخاء أمرا لا معقولا نعجز عن استيعابه. لكن بمرور الوقت، يصبح الاستسلام له لذيذا. لا شيء يدعوك أن تتعجّل في شيء، لذلك بإمكانك أن تتذوّق وتتأنّى وتتأمّل. في الأشهر الأخيرة، توفّر لي الوقت لأطالع ما كنت أؤجّله لمدّة طويلة، دون أن ألجأ إلى التهام الصفحات على عجل لأسجّل أرقاما قياسية في مجموعات القرّاء، وإنّما أهضم ببطء شديد ما أقرؤه، وأسجّل ملاحظاتي حوله وأتوسّع في بعض جوانبه. في هذه الفترة، كتبت كثيرا فاستأنفت مشاريع معطّلة منذ مدّة وشرعت في مشاريع جديدة. جدّدت علاقتي بالموسيقى فاستمعت إلى أنماط لم أكن منفتحا عليها وتواصلت مع عشقي القديم فـ"ختمت" جميع مسرحيات فيروز. رجعت كذلك إلى كلاسيكيات السينما فشاهدت عددا كبيرا من الأفلام القديمة، دون أن أهمل ما تمّ اعتباره من أفضل أفلام القرن الحادي والعشرين.
6. سجن العمل المكتبي
تجربة العمل عن بعد على مدى أشهر وضعت موضع التطبيق فكرة تلازمني منذ أن بدأت حياتي العملية مفادها أنّ العمل المكتبي هدر كبير للأعمار. أن تكون مضطرّا إلى البقاء ثماني ساعات في اليوم جالسا إلى مكتب يعني أن تقبل بأن تعيش من الناحية الذهنية في حالة من العطالة وأن ترضى من الناحية البدنية لجسدك أن يدخل في حالة ترهّل. يعبّر عن هذه الحالة أنطوان كرباج في مسرحية المحطّة، فبعد أن كان لصّا يعيش على تخوم الخطر، يضجر بسرعة من كونه موظّفا ويحنّ إلى أن يفرد جناحيه خارج الغرفة الصغيرة التي سُجن فيها.
تثبت تجربة العمل عن بعد أنّ وسائل الاتّصال الحديثة تتيح القيام بتسعين في المائة ممّا كنت تقوم به في المكتب، دون أن تقضي ساعات في زحمة المرور، ودون أن تضطرّ إلى الجلوس دون حراك على كرسيّ. أمّا على النجاعة، فهي تكون أكبر بكثير عندما يُرفع عنك الحاجز الذهني للسجن المكتبي. هناك مهمّة معيّنة اقتضت منّي عندما قمت بها في المكتب بضع أيّام، بين الأخذ والردّ والضجر والانشغال. أمّا عندما قمت بمهمّة مماثلة عن بعد، لم تتطلّب أكثر من بضع ساعات.
7. الشريك المناسب للحياة
عندما يختار المرء شريكا لحياته، فلا بدّ أن يضع في حساباته لا الأوقات السعيدة فحسب وإنّما كذلك الأوقات الحزينة وحتّى الأوقات الاستثنائية جدّا كفترة الكورونا. ليس من السهل أبدا أن تقضي عدّة أشهر ولا رفيق لك سوى نفس الشخص. لا أستطيع أبدا أن أتخيّل كيف يمكن لأيّ أحد أن يقضي مثل هذه الفترة مع من لا يحبّه أو من أرغم على الارتباط به.
طبعا لم تخل فترة الحجر الصحّي مع سوسن من بعض لحظات الملل، لكنّها كانت أقلّ من أن تعدّ. هيّأت لنا مجالات اهتمامنا المشتركة معينا لا ينضب من النقاشات الطويلة الدسمة حول عديد المواضيع: من الفلسفة إلى الشؤون البسيطة للحياة اليومية مرورا بالسياسة والفنّ والمجتمع والمسلسلات الرمضانية وحتّى "التقطيع والترييش"... وفي الحقيقة، كانت هذه النقاشات ملهمة لقسم كبير ممّا كتبته. وكلّما ظننّا أنّنا استنفدنا كلّ المواضيع الممكنة، ينفتح لنا باب آخر للنقاش لم يكن يخطر لنا على بال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق