سار حبيب في الطريق المهملة حتى بدأت معالمها تنطمس...
كان كلّما تقدّم زادت الخضرة وقلّ البياض حتى وجد نفسه بعد ساعة أو بضع ساعة منقطعا
لا يحيط به سوى الشجر والأعشاب. كانت الحمرة بدت تتسلّل إلى السماء، وفكّر أنّه لا
مناص عن العودة من حيث أتى. لكنّه بقي في مكانه. لم يكن يريد أن يخسر تحدّي النور
والعتمة. بعد دقيقة من التردّد كان يفترش الأرض قرب شجرة سرو ضخمة، ينظر إلى تعانق
أغصانها مع بقايا الزرقة. كان الحفيف يبثّ البرد وشيئا من السلام في نفسه، ويمتصّ
أشلاء الحمّى إلى مكان سحيق لا يُدرك من الأرض. موسيقى عن ليال عشق مجهولة كانت
تجوب كيانه. بين الصحو والغفوة مضى زمنه. قام متراخيا. الرجعة أيسر السبل، لكنه محاها
من باله. عليه أن يسير غربا، لو كان يدري أين الغرب. مشى حيثما اتفق، لا يسمع سوى
تكسّر الأغصان اليابسة تحت قدميه. في البداية، كان يتحسّس الفجاج بين الأشجار،
لكنّه كان في كلّ مرّة ينتهي إلى أجمة فينكص. تكرّر الأمر ثلاث أو أربع مرّات. طرقه
مسدودة، وقد فقد الإحساس بالاتّجاه...
قد يكون تاه. لكنّه أنكر من نفسه أنّه لم ينزعج من
ذلك. رغم وجيبه، كان يملؤه يقين لم يعهده. السماء لحافه وقد غابت الشمس الهازئة،
والسّرى محمود، وقد بدت قناديل فيهنّ الذبال المفتّل. اقتحم أقرب أجمة وسار لا
يلوي على شيء. لا يعرف إلى أين، كل ما يدريه أنه اختار أن يمشي. على غير هدى
ربّما، لكن عسى أن يدركه الهدى وهو يسير. اجتاز الغابة الكثيفة إلى أرض رحبة أكثرها
مكسّو حلفاء. عبرها عاثر الخطو، وكاد يسقط غير مرّة. أشرف فبدا له السهل عن بعد. حثّ
السير مكدودا، حتّى لاحت له أعمدة النور. لمّا وصل إلى أقربها كان يبتسم ملء
شدقيه. مرّ به بعض السيّارة ونأى عنه لمّا لمح ابتسامته الغريبة... ابتسامته الطافحة
أنسا، حتّى تكاد تعانق من تراه. فرد ذراعيه وهو يمشي تابعا خطّا لا يراه غيره وهو
يترنّم بأغنية قديمة... حتّى ابتلعه الطريق...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق