حضرت لأوّل مرّة في حفل للأركستر السمفوني التونسي في مبادئ دراستي الجامعية. ربّما كان ذلك سنة 2004 أو 2005. كنت مدفوعا برغبة في الاستماع المباشر لهذا النوع من الموسيقى الراقية (ولعلّي أردت أن أسجّل نفسي في نادي الرقيّ). أذكر أنّ سعر التذكرة كان يتراوح بين ثلاثة وخمسة دنانير، تخّفض للنصف بالنسبة للطلبة. ورغم ذلك، لم يكن الحضور كبيرا، وأغلبه كان مكوّنا من أصحاب الدعوات من طلبة المعهد العالي للموسيقى وأصدقائهم. جلّ ما أذكره عن ذلك الحفل أنّ ذهني شرد في معظم فتراته، وكنت أردّ نفسي بصعوبة للاستماع، قبل أن أعود إلى الشرود. قاد الأركستر يومها المايسترو أحمد عاشور (أمدّ الله في أنفاسه)، وكان يحافظ على ملامحه الجامدة، ولا يكاد يُرى مبتسما، وقد خلت أنّ ذلك من شيم كلّ القادة. لم أتمتّع كثيرا، وقد أرجعت ذلك إلى ضعف ثقافتي الموسيقية، وأقنعت نفسي أنّ الأمر يتطلّب وقتا لتذوّق هذا النوع من الموسيقى.
استمررت في حضور الحفلات الشهرية، وإن لم يكن ذلك بشكل منتظم، كما حضرت عروضا لفرق أخرى، ممّا أتاح لي أن أقارن. عندما استضاف الأركستر قائدة فرنسية، اكتشفت أنّ بوسع القادة أن يبتسموا وأن يكونوا لطافا. لمّا حضرت عرض هبة القوّاس، واستمتعت إلى الأركستر الأرمني المصاحب لها، فوجئت أنّه يمكن للمايسترو حتّى أن يمازح الجمهور. عندما حضرت عرضا لأركستر نمساوي، أبهرني التناغم الدقيق بين جميع الآلات. أيقنت أنّ المشكل ليس فيّ فقط، بل أنّه ما يزال على أركسترانا الوطني طريق طويل لقطعه، ولم يكن ذلك بالأمر المستغرب، فقد علمت أنّ جميع أعضائه يشتغلون في غيره (يدرسون أو يدرّسون)، ولا يجتمعون إلّا لعدد محدود من التدريبات قبيل كلّ حفل.
في تلك الفترة، كان أكبر فضل للأركستر السمفوني عليّ أن عرّفني على الإبداعات الموسيقية لمؤلّفين تونسيين، وهو ما لم يكن متاحا بسهولة. لا أزال أحتفظ بالكتيب المصحوب بقرص يحتوي على سمفونية "موغادور" لجلّول عيّاد الذي وزّع على الحاضرين في حفل خصّص لهذا الموسيقار. بعد سنوات، كان وجوده في الحكومة الانتقالية من الدواعي التي دفعتني للتفاؤل بشأن حال البلاد...
تغيّرت قيادة الأركسترا في 2011، وأسندت إلى المايسترو حافظ مقني. حضرت، بعد غيبة لعدّة أشهر، حفلا خصّص لموسيقى الأفلام. ما لاحظته حينها أنّ الحفلات اكتست طابعا جماهيريا أكبر، إذ كان الحضور غفيرا، ولم أعثر على تذكرة إلا بمكان قصيّ بأعلى المسرح. لكن لم أرض بالمرّة عن العرض. بدا لي أنّه فقط يجاري الذوق العام، إذ كانت جميع المعزوفات قصيرة للغاية وشهيرة (طبعا لارتباطها بأفلام)، دون أن يكون العزف متقنا، إذ صاحبه بعض الارتباك.
لم أعد بعدها لمواكبة العروض بالمسرح البلدي إلّا بعد حوالي عام. وحينها، انبهرت بالتغيير الحاصل. كانت القطع المعزوفة تراوح بين الكلاسيكيات المعتقّة والتونسيات المبتكرة. تطوّر التناغم بين العازفين إلى حدّ كبير التقطته أذني غير الخبيرة. وكان هناك جوّ من المرح يسود علاقة الأركسترا بالجمهور، عوّض ذلك التجهّم القديم. لم تعد مجموعة تأتي لتعزف ما قرّرته مسبقا دون أن تعبأ بالمرّة بتفاعل الجمهور، بل صار هناك حرص على اختيار يوازن بين العمق والإمتاع. وصار من الأركان شبه القارة فسح المجال للأصوات الأوبرالية التونسية الشابة لتستعرض مواهبها، وهو لعمري تقليد برع في تنقية آذاننا من الضوضاء التي نسمعها كلّ يوم.
صار الحفل الشهري للأركستر السمفوني التونسي فسحتي الشهرية من الجمال والإبداع. أمضي هناك لأترك ذلك الإيقاع العجيب يحملني معه. أبقى على وقعه في مكان هو من العالم واللاعالم. أتفيّأ ظلاله ساعة وبعض ساعة، وأرحل بنشوة تلازمني أمدا حتّى تسرقها زحمة الحياة.
آخر تلك الحفلات كان يوم الثلاثاء بمسرح الفنّ الرابع، وخصّص للموسيقى الإيطالية. تطارح فردي وبوشيني وروسيني روائعهم بأيد تونسية. تفنّن الأركستر بصفة خاصة في المارش الكبير لأوبرا عايدة وافتتاحية حلّاق اشبيلية. وبرزت من الأصوات الصاعدة الميزو سوبرانو أميرة دخلية، التي فضلا عن قدراتها الصوتيّة العالية، تميّزت بكفاءتها التعبيرية. فرغم أنّ الكلمات كانت بالإيطالية، فقد كان من الممكن على المشاهدين استيعاب المعاني من خلال ملامح وحركات الفنّانة الشابة على المسرح.
لازال على الأركستر السمفوني التونسي، رغم ما حقّقه ويستمرّ في تحقيقه حفلا بعد حفل، الكثير لعمله. إذ لا تزال الحفلات تقوم في أغلبها على منطق المختارات، الذي وإن كان مفهوما باعتبار جماهيريته، فإنّه يحرم التوّاقين إلى هذا النوع من الموسيقى من متعة الاستماع إلى أعمال بكاملها. كما أنّه ورغم أنّ الأركستر حقّق بعض الشعبية، على المسارح وحتّى على فايسبوك، فإنّه لم يعد متاحا للجميع نظرا إلى ارتفاع سعر التذكرة الذي بلغ أكثر من ضعف ما كان عليه منذ سنوات قليلة. صحيح أنّ الموسيقى الكلاسيكية، شئنا أم أبينا، نخبوية بطبعها، ولكن يجدر دراسة الأسعار إذا رمنا نشر هذه الثقافة الموسيقية لدى قطاع أوسع من الجمهور، لا سيّما الطلبة.
ورغم هذه النخبوية، يعاني الأركستر السمفوني التونسي نوعا من التشرّد. في ختام الحفل الأخير، أعلن المايسترو أنّ الحفل القادم سيكون في أوّل أيّام العام الجديد، في مكان لم يحدّد بعد، نظرا للأشغال التي ستجرى بقاعة الفنّ الرابع. جال الأركستر في العامين الأخيرين بين المسرح البلدي ودار الثقافة ابن خلدون ودار الثقافة ابن رشيق والريو والفنّ الرابع، ولم يتمكّن من الاستقرار نظرا للظروف التي تمرّ بها مختلف الفضاءات، وخاصة الأشغال التي تكثّفت وتيرتها حتّى أصبحت الساحة الثقافية بالعاصمة أشبه بحضيرة كبيرة. عسانا العام القادم، إذ تنتهي الأشغال وتفتح مدينة الثقافة أبوابها، ننتقل من الجوع إلى التخمة !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق