كان أوّل الحزن...
لم أكن قبله إلّا صبيّا...لم يكن الموت بالنسبة لي سوى مفهوم مجرّد، لا يعني لي الكثير... كأنّه لم يكن يعنيني، فهو لا يصيب إلّا الأباعد، ولا يتهدّدني في شيء... كنت، كمعظم الأطفل، ألهو متنعّما بصباي، ليس لي ما يشجي سوى هموم سنّي من دراسة وتسابق مع الأتراب... ولعلّه لم يخطر لي حينها أنّه يمكن أن أفقد شيئا أو أحدا... كانت الحياة تسير هادئة رتيبة، ثمّ قست ملامحها فجأة وتجلّلت بردائها المعتم... امتدّت يدها الصفراء لتهدم ركنا منيفا من معالم العائلة... تلك الأمسيات القلقة في باحة المصحّة... ذلك الانتظار المتوتّر بين الخوف والرجاء... ذلك البرد الذي كان يتغلغل فينا رويدا... تلك الوجوه الجامدة، وتلك المتفجّرة أسى... في تلك الأيّام، تعلّمت أنّ في الدنيا الكثير ممّا يمكن أن أفقده... وكانت أوّل خيبة لي مع الله... لم أستوعب كيف يمكن أن يُعرض عن أحرّ الدعاء الصاعد من قلب لا يزال غضّا نقيّا..
كان أوّل الشعر...
كان أوّل ما كتبته، أو بالأحرى أوّل ما بقي لي من كتابات الصبا، مرثيّة فيه... لم تكن قصيدة مكتملة، فلم أكن أعرف الكثير عن العروض حينها... كان بوحا مقفّى ساذجا... تفجّعا خالصا... مزيجا من الحيرة واللوعة... ومنذ ذلك الحين، تعلّمت كيف أنصهر مع قلمي... وأصبح فيما بعد شعري، كلّه أو أغلبه، نفثا... كان الانفجار، فهوى القلب في بحار من الحبر، وصار لا يمتح سوى منها... المفارقة أنّ كلّ ذلك كان بعد غيابه، وهو من كان فارس الكلمات... لطالما تبادر إلى ذهني أنّ يراعي كان ليكون أرشق حرفا وأرسخ قدما لو تعهّدته عينه البصيرة...
كان آخر الدمع...
تعدّدت من بعده المناسبات الحزينة، لكنّ عيني كانت تأبى أن تسعدني... طالما ألححت عليها في ذلك، لكنّ معينها جفّ في ذلك اليوم، فلم تجري غدرانها بعد ذلك على خديّ... أذكر أنّي بعدها بأسابيع تعرّضت إلى موقف جرح كبريائي، فهمّ الطفل فيّ أن ينتحب، لكنّي هززته بعنف وأمسكته عن ذلك... لم يعد يليق به ذرف الدمع على الصغائر، بعد أن ذاق للحزن طعما... كبرت سنين في تلك الأيّام، وانسحبت إلى داخل نفسي... بعد أن غاض الماء، اتّخذ سبيله إلى أعماق القلب سربا...
نحن لا ننسى، ولكن نتعوّد على الحزن، فنتلهّى، ونزعم أنّا تجاوزنا...
ثمانية عشر عاما مرّت، وصار الحزن بعمر فتى بالغ قد أدرك رشده... ركضنا على صهوة الأيّام وخلنا أنّنا ذرعنا الدنيا كلّها... ولم نزل كلّما هبّت ريح الحنين نجد من تلك اللذعة غضاضتها الأولى... لا يبدّدها ربّما سوى مرأى سميّه وحفيده يزرع الأرض فرحا وأملا في قلوب كلّ من عرفه يوما...
عليك سلام الله يا أبا معز...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق