كان أوّل لقاء لي مع الشاعر الراحل في ربيع عام 2011. كنت وقتها بدأت النشاط مع منظمة ألتايير العالمية (الراحلة عن تونس بدورها) وكنّا ندرس برنامج حفل افتتاح الجامعة المفتوحة لذلك العام. اقترح أحد الحضور استضافة الصغيّر أولاد أحمد، وبادرت المنسّقة إلى مهاتفته، وما لبثت أن أعلمتنا بموافقته. علّق أحد الخبثاء: هو دائما يوافق إذا خوطب في مثل هذا الوقت، ثمّ يتراجع في الغد، ويقول أنه كان في لحظة تجلّ. لكنّ الشاعر خيّب زعمه، وكان في مقدّمة الحاضرين، بل وافتتح هو التظاهرة. غادر بعد برهة، وحمدت الله أنه لم يستمع إليّ وأنا ألقي بنبرتي الرتيبة التي تمزّق أوصال القصيد تمزيقا...
غير أنّي وقفت ذلك الموقف بين يديه بعد سنة ونيف... كان ذلك في المهرجان الوطني للأدباء الشبّان بقليبية، وكانت مشاركتي الأولى في تظاهرة بذلك المستوى. لم أكن أعرف أحدا من المشاركين، الذين أخذ بعضهم يتباهى أمامي بكم الجوائز التي تحصّل عليها، ولم أكن كذلك أعرف أحدا من أعضاء لجنة التحكيم. كنت محظوظا بما يكفي لأكون في الورشة التي يشارك شاعرنا في الإشراف عليها. أنصت إلى النصوص معلّقا ومعقّبا. لمّا جاء دوري، قرأت قصيدة "السامريّ" بإلقائي البائس. صمت للحظة لشدّ ما طالت عليّ، ثم نطق بصوته الأجش قائلا، بشيء من العجب: من الواضح أنّ صاحب هذه القصيدة شاعر متمرّس. انفرجت أساريري، وذهب عنّي الكثير من التوتّر. طفق يسألني، ثم يتوقف لهنيهة ليحيل الكلمة إلى غيره، قائلا أنه يحتاج إلى وقت أكثر لهضم القصيدة، ويعيد قراءتها. لمّا أحلت إلى قصة السامريّ القرآنية، قال مازحا: أفسدت الأمر، ليتك اكتفيت بالإشارة إلى جذورها البعيدة. أشار إلى رتابة الإلقاء، غير أنه لم يعتبر ذلك عاملا مؤثرا...
أنهينا أشغال الورشة في يوم واحد، وبقي المجال مفتوحا في اليوم الثاني لللقراءات الحرة والثرثرة. علّق شاعرنا على مشارك ضعيف النص لكن حسن الإلقاء: البعض يروم التغطية على نصّه بإلقائه، لكن ذلك لاينطلي على الذئاب من أمثالي. وروى لنا كيف حاول حينما كان يدرس في فرنسا التودد إلى إحدى الجميلات بتفسير كون لقبه مفردا في صيغة الجمع، وكيف أفسدت عليه زميلة تونسية كل الملعوب...
خلال تلك الدورة، فزت بالجائزة الثانية... جذلت لفوزي ذلك حدّ التيه، وظننت نصّي وحده قادرا على إثبات ذاته، مهما كان المحكّمون. لكن ظني ذلك ما لبث أن تحطّم بعد حوالي عامين، لمّا وقفت معتدا بقصيدتي "نشيد الانهزام" التي عددتها معلّقتي، فإذا برئيس لجنة التحكيم، الذي يزعمون أنه شاعر مفلق، يرجّني بسؤال لا علاقة له بالقصيدة: من أنت؟ لم لم أسمع لك سابقا؟ ثم يبدي تأففه من استعمال تفعيلة المتقارب، ويسألني إن كان سبق أن استعملت غيرها! وطفق لصوص الشعر الحاضرون يومها يجرّحون نصي الأثير، ومُنعت حتى من الإجابة على هذرهم، وكانت تلك آخر مشاركة لي في مسابقة شعرية...
حين تعود بي الذاكرة إلى ذلك، أزداد يقينا أنّ ما صنع الفارق في قليبية لم يكن قيمة نصي وحدها، بل كذلك وبالخصوص وجود شاعر يقدّر قيمة النص، والنص وحده، بغضّ النظر عن الأسماء والعلاقات... شاعر يلتقط بسليقته مكامن الإبداع، ولا يجد غضاضة في تثمينها...
برّد الله ثراك يا أولاد أحمد!